الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار ***
[تنبيه]
قال الإمام العلامة عبد العزيز النجاري في شرحه على أصول الإمام البزدوي ما نصه: روى البويطي عن الشافعي رضي الله عنهما أنه قال له: إني صنفت هذه الكتب فلم آل فيها الصواب. ولا بد أن يوجد فيها ما يخالف، كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} فما وجدتم فيها مما يخالف كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإني راجع عنه إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال المزني: قرأت كتاب الرسالة على الشافعي ثمانين مرة، فما من مرة إلا وكان يقف على خطأ. فقال الشافعي: هيه، أبى الله أن يكون كتابا صحيحا غير كتابه. ا هـ. (قوله: قليل. خطأ المرء) أي خطأ المرء القليل. فهو من إضافة الصفة للموصوف. وعبر بالخطأ إشارة إلى أن ذلك واقع لا عن اختيار. فالإثم مرفوع والثواب ثابت ط (قوله: في كثير صوابه) متعلق بمحذوف حال من الخطأ: أي الخطأ القليل كائنا في أثناء الصواب الكثير أو باغتفر. وفي بمعنى مع. أو للتعليل أفاده ط. ولا يخفى ما في الجمع بين قليل وكثير وخطإ وصواب من الطباق (قوله: ومع هذا) أي مع ما حواه من التحريرات والتحقيقات. ا هـ. ح. قلت: والأولى جعله مرتبطا بقوله ويأبى الله. أي مع كونه غير محفوظ من الخلل فمن أتقنه كما تقول فلان بخيل ومع ذلك فهو أحسن حالا من فلان ط (قوله: فهو الفقيه) الجملة خبر من قرنت بالفاء لعموم المبتدأ فأشبه الشرط. والمراد بالفقيه من يحفظ الفروع الفقهية ويصير له إدراك في الأحكام المتعلقة بنفسه وغيره وسيأتي الكلام على معنى الفقه لغة واصطلاحا ط (قوله: الماهر) أي الحاذق قاموس (قوله: ومن ظفر) في القاموس: الظفر بالتحريك الفوز بالمطلوب ظفره وظفر به وعليه (قوله: بما فيه) أي من التحريرات والتحقيقات والفروع الجمة والمسائل المهمة (قوله: فسيقول) أتى بسين التنفيس لأن ذلك يكون عند السؤال أو للناظرة مع الإخوان غالبا، أو أنها زائدة أفاده ط أو لأنه إنما يكون بعد اطلاعه على غيره من الكتب التي حررها غيره وطولها بنقل الأقوال الكثيرة والتعليلات الشهيرة، وخلافيات المذاهب والاستدلالات من خلوها من تكثير الفروع والتعويل على المعتمد منها كغالب شروح الهداية وغيرها. فإذا اطلع على ذلك علم أن هذا الشرح هو الدرة الفريدة الجامع لتلك الأوصاف الحميدة، ولذا أكب عليه أهل هذا الزمان في جميع البلدان. (قوله: بملء فيه) الملء بالكسر: اسم ما يأخذه الإناء إذا امتلأ وبهاء هيئة الامتلاء ومصدره ملء قاموس، وفيه استعارة تصريحية حيث شبه الكلام الصريح الذي يستحسنه قائله ويرتضيه، ولا يتحاشى عن الجهر به بما يملأ الإناء بجامع بلوغ كل إلى النهاية أو مكنية حيث شبه الفم بالإناء والملء تخييل. وهو كناية عن الإتيان بهذا القول جهرا بلا توقف ولا خوف من تكذيب طاعن، وبين قوله فيه وفيه الجناس التام (قوله: كم ترك الأول للآخر) مقول القول وكم خبرية للتكثير مفعول ترك، والمراد بالأول والآخر جنس من تقدم في الزمن ومن تأخر، وهذا في معنى ما قاله ابن مالك في خطبة التسهيل: وإذا كانت العلوم منحا إلهية، ومواهب اختصاصية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين، ما عسر على كثير من المتقدمين. ا هـ. وأنت ترى كتب المتأخرين تفوق على كتب المتقدمين في الضبط والاختصار وجزالة الألفاظ وجمع المسائل، لأن المتقدمين كان مصرف أذهانهم إلى استنباط المسائل وتقويم الدلائل؛ فالعالم المتأخر يصرف ذهنه إلى تنقيح ما قالوه، وتبيين ما أجملوه، وتقييد ما أطلقوه، وجمع ما فرقوه، واختصار عباراتهم، وبيان ما استقر عليه الأمر من اختلافاتهم، فهو كماشطة عروس رباها أهلها حتى صلحت للزواج، تزينها وتعرضها على الأزواج، وعلى كل فالفضل للأوائل كما قال القائل: كالبحر يسقيه السحاب وما له فضل عليه لأنه من مائه نعم فضل المتأخرين على أمثالنا من المتعلمين، رحم الله الجميع وشكر سعيهم آمين (قوله: الحظ) أي النصيب، والوافر: الكثير (قوله: لأنه): تعليل للجمل الثلاثة قبله، والضمير يرجع إلى الكتاب ط (قوله: هو البحر) تشبيه بليغ أو استعارة (قوله: لكن بلا ساحل) الساحل ريف البحر وشاطئه مقلوب، لأن الماء سحله وكان القياس مسحولا قاموس، وإذا كان لا ساحل له فهو في غاية الاتساع، لأن نهاية البحر ساحله، فهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم حيث أثبت صفة مدح واستثنى منها صفة مدح أخرى نحو: «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش»، وهو آكد في المدح لما فيه من المدح على المدح والإشعار بأنه لم يجد صفة ذم يستثنيها فاضطر إلى استثناء صفة مدح. وله نوع ثان: وهو أن يستثني من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح، كقوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب أي في حدهن كسر من مضاربة الجيوش، وهذا الثاني أبلغ كما بين في محله فافهم. وفيه أيضا من أنواع البديع نوع من أنواع المبالغة وهو الإغراق، حيث وصف البحر بما هو ممكن عقلا ممتنع عادة (قوله: ووابل القطر) الوابل: الكثير، وهو من إضافة الصفة للموصوف: أي القطر الوابل ط (قوله: غير أنه متواصل) أي تواصلا نافعا غير مفسد بقرينة المقام وإلا كان ذما، وهذا أيضا من تأكيد المدح بما يشبه الذم (قوله: بحسن عبارات) الباء للتعليل مثل - فبظلم - أو للمصاحبة مثل اهبط بسلام - أو للملابسة وهي متعلقة بالبحر لأنه في معنى المشتق: أي الواسع مثل حاتم في قومه، ومثل قول الشاعر: أسد علي وفي الحروب نعامة *** لتأوله بكريم وجريء أو بمحذوف حال من الضمير في لأنه أو من كتابي (قوله: ورمز إشارات) هما بمعنى واحد: وهو الإيماء بالعين أو اليد أو نحوهما كما في القاموس. فكأنه أراد ألطف أنواع الإيماء وأخفاها كما سيصرح به بعد بقوله: معتمدا في دفع الإيراد ألطف الإشارة. (قوله: وتنقيح معاني) أي تهذيبها وتنقيتها، ويحتمل أنه من إضافة الصفة إلى الموصوف، ومثله قوله: وتحرير مباني. وفي القاموس: تحرير الكتاب وغيره تقويمه ا هـ. ومباني الكلمات: ما تبنى عليه من الحروف، والمراد بها الألفاظ والعبارات، من إطلاق الجزء على الكل، وفي قوله المعاني والمباني مراعاة النظير: وهو الجمع بين أمر وما يناسبه، لا بالتضاد نحو: {الشمس والقمر بحسبان} ثم الموجود في النسخ رسمها بالياء مع أن القياس حذفها، والوقف على النون ساكنة مثل: {فاقض ما أنت قاض} (قوله: وليس الخبر كالعيان) بكسر العين: المعاينة والمشاهدة وهذه علة لمحذوف: أي أن ما قلته خبر يحتمل الصدق والكذب، وبعد اطلاعك على التأليف المذكور تعاين ما ذكرته لك وتتحققه بالمشاهدة لأن الخبر ليس كالعيان أفاده ط وفي هذا الكلام اقتباس مما رواه أحمد والطبراني وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس الخبر كالمعاينة» وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم كما في المواهب اللدنية، وتضمين لقول الشاعر: يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما *** قد حدثوك فما راء كمن سمعا (قوله: وستقر) القر: بالضم البرد، وعينه تقر بالكسر والفتح قرة وتضم وقرورا بردت وانقطع بكاؤها. أو رأت ما كانت متشوفة إليه قاموس، وكأنه وصف العين بالبرودة، لما قالوا من أن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة (قوله: بعد التأمل) أي التفكر فيه والتدبر في معانيه ط (قوله: فخذ) الفاء فصيحة: أي إذا كان كما وصفته لك أو إذا تأملته وقرت به عيناك فخذ إلخ. ثم اعلم أنه من هنا إلى قوله كيف لا وقد يسر الله ابتداء تبييض إلخ ساقط من كثير من النسخ، وكأنه من إلحاقات الشارح، فما نقل من نسخته قبل الإلحاق خلا عن هذه الزيادة، والله تعالى أعلم.(قوله: من حسن روضه) الحسن الجمال جمعه محاسن على غير قياس قاموس. فهو اسم جامد لا صفة فالإضافة فيه لامية فافهم، والأسمى أفعل تفضيل من السمو: أي الأعلى من غيره. قال ط: وفي الكلام استعارة شبه عبارته الحسنة بالروض بجامع النفاسة وتعلق النفوس بكل والقرينة إضافة الروض إلى الضمير (قوله: عن الحسن) الظاهر أنه بضم الحاء، فالمعنى دع الحسن الصوري المحسوس وانظر إلى حسن روض هذا الشرح الأعلى قدرا. ا هـ. ح (قوله: وسلمى) امرأة من معشوقات العرب المشهورات كليلى ولبنى وسعدى وبثينة ومية وعزة، وليس المراد بها المعنى العلمي، وإنما المراد الوصفي لاشتهارها بالحسن كاشتهار حاتم بالكرم، فيقال فلان حاتم بمعنى كريم، فالمراد دع الجمال والجميل (قوله: في طلعة) خبر مقدم وما يغنيك مبتدأ مؤخر؛ والمعنى أن طلعة الشمس: أي طلوعها يكفيك عن نور الكوكب المسمى بزحل، نزل كتابه منزلة الشمس بجامع الاهتداء بكل، ونزل غيره منزلة زحل، ولا شك أن نور الشمس والاهتداء به لا يكون لغيرها من الكواكب، وزحل أحد الكواكب السيارة التي هي السبع، جمعها الشاعر على ترتيب السموات كل كوكب في سماء بقوله: زحل شرى مريخه من شمسه فتزاهرت لعطارد الأقمار ط (قوله: هذا) أي خذ هذا الذي ذكرته، وأراد به الانتقال عن وصف الكتاب إلى التنبيه على عدم الاغترار بما يشنع به حساد الزمان المغيرون في وجوه الحسان: كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسدا ولؤما إنه لدميم. (قوله أعراض) جمع عرض بكسر العين: محل المدح والذم ط (قوله: أغراض) أي كالأغراض خبر أضحى فهو تشبيه بليغ. والأغراض: جمع غرض، وهو الهدف الذي يرمى بالسهام، فكما أن الغرض يرمى بالسهام كذلك أعراض المصنفين ترمى بالقول الكاذب، وشاع استعمال الرمي في نسبة القبائح كما قال تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} {والذين يرمون المحصنات} وبين الأعراض والأغراض الجناس المضارع ط، وفي تشبيه الكلام القبيح بالسهام استعارة تصريحية القرينة إضافتها إلى الألسنة والجامع حصول الضرر بكل، ويحتمل أن يكون من إضافة المشبه به إلى المشبه: أي الألسنة التي هي كالسهام، لكن تشبيه الكلام بالسهام أظهر من تشبيه الألسنة بها تأمل. (قوله: ونفائس تصانيفهم وإلخ) النفائس جمع نفيسة، يقال: شيء نفيس أي يتنافس فيه ويرغب، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف مرفوع بالعطف على اسم أضحى أو على الابتدائية والواو للاستئناف أو للحال، ومعرضة بتشديد الراء منصوب على أنه خبر أضحى أو مرفوع على أنه خبر المبتدأ. وبأيديهم متعلق به: أي منصوبة بأيديهم، من قولهم: جعلت الشيء عرضة له: أي نصبته: أو بفتح الراء مخففة من أعرض بمعنى أظهر: أي مظهرة في أيديهم والضمير للحساد، وجملة تنتهب أي الحساد بالبناء للمعلوم حالية أو خبر بعد خبر أو هي الخبر ومعرضة حال. ورميها بالكساد كناية عن هجرها أو ذمها. والمعنى أن الحساد لا يستغنون عنها بل ينتهبون فوائدها وينتفعون بها ثم يذمونها ويقولون إنها سلعة كاسدة (قوله: أخا العلم) منادى على حذف أداة النداء والأخ: من النسب والصديق والصاحب كما في القاموس. والمراد الأخير (قوله: بعيب) مصدر مضاف إلى مفعوله، وإن جعل العيب اسما لما يوجب الذم فهو على تقدير مضاف: أي بذكر عيب ط (قوله: مصنف) بكسر النون أو بفتحها (قوله: ولم تتيقن) جملة حالية ط (قوله: منه) متعلق بمحذوف صفة لزلة وجملة تعرف صفة ثانية أو حال. أو منه متعلق بتعرف والجملة صفة لزلة (قوله: فكم) خبرية للتكثير في محل رفع مبتدأ والجملة بعدها خبر كما هو القاعدة فيما إذا وليها فعل متعد أخذ مفعوله فافهم (قوله: بعقله) الباء للآلة أي أن عقله هو الآلة في الإفساد ط (قوله: وكم حرف) التحريف التغيير. والتصحيف: الخطأ في الصحيفة قاموس. لكن في شرح ألفية العراقي للقاضي زكريا: التحريف الخطأ في الحروف بالشكل. والتصحيف الخطأ فيها بالنقط واللحن: الخطأ في الإعراب ا هـ. وفي تعريفات السيد: تجنيس التحريف هو أن يكون الاختلاف في الهيئة كبرد وبرد وتجنيس التصحيف أن يكون الفارق نقطة كأنقى وألقى. ا هـ. (قوله: أضحى لمعنى مغيرا) اللام في المعنى زائدة للتقوية لتقدم المفعول على عامله مع أن العامل محمول على الفعل فضعف عن المعمول وتغيير الناسخ المعنى بسبب تغييره الألفاظ وجملة وجاء إلخ مؤكدة، وهذا معنى ما يقال الناسخ عدو المؤلف (قوله: من هذا) أي التأليف (قوله: أن يدرج) أي يجري. وفي القاموس: درجت الريح بالحصى أي جرت عليه جريا شديدا (قوله: من المصنفين والمؤلفين) التأليف: جعل الأشياء الكثيرة بحيث يطلق عليها اسم الواحد سواء كان لبعضها نسبة إلى بعض بالتقدم والتأخر أو لا. وعليه فيكون التأليف أعم من الترتيب ا هـ. تعريفات السيد. قيل وأعم من التصنيف لأنه مطلق الضم، والتصنيف جعل كل صنف على حدة. وقيل المؤلف من يجمع كلام غيره والمصنف من يجمع مبتكرات أفكاره، وهو معنى ما قيل واضع العلم أولى باسم المصنف من المؤلف (قوله: رياض) في القاموس راض المهر رياضا ورياضة: ذلك ا هـ. ومنه قولهم مسائل الرياضة. قال الشنشوري أي التي تروض الفكر وتذلله لما فيها من التمرين على العمل (قوله: القريحة) في الصحاح: القريحة أول ما يستنبط من البئر، ومنه قولهم لفلان قريحة جيدة: يراد استنباط العلم بجودة الطبع. ا هـ. والمراد بها هنا آلة الاستنباط: وهي الذهن (قوله: ودعاء) عطف على الغفران (قوله: وما علي) ما نافية وعلي خبر مبتدإ محذوف: أي وما علي بأس أو ما استفهامية مبتدأ وعلي الخبر (قوله: فسيتلقونه بالقبول) قد حقق المولى رجاه وأعطاه فوق ما تمناه، وهو دليل صدقه وإخلاصه رحمه الله تعالى وجزاه خيرا (قوله: ترى الفتى) رأى علمية والفتى مفعول أول، وهو في الأصل الشاب، والمراد به هنا مطلق الشخص، وجملة ينكر مفعول ثان أو بصرية ولا يرد أن الإنكار مما لا يدرك بالبصر لأنه قد تدرك أماراته، على أنه إذا جعلت بصرية فجملة ينكر حال لا مفعول لها حتى يرد ذلك فافهم (قوله: لؤما) مهموز العين مفعول لأجله (قوله: ما ذهب) أي مات، والقاعدة أن ما بعد إذا زائدة (قوله: لج) بالجيم؛ من اللجاج: وهو الخصومة كما في القاموس ا هـ. ح وضمنه معنى اشتد فعداه بالباء ط (قوله: الحرص) طلب الشيء باجتهاد في إصابته تعريفات السيد (قوله: على نكتة) متعلق بالحرص والنكتة: هي مسألة لطيفة أخرجت بدقة نظر وإمعان فكر، من نكت رمحه بأرض: إذا أثر فيها، وسميت المسألة الدقيقة نكتة لتأثر الخواطر في استنباطها سيد (قوله: يكتبها) حال من الضمير المجرور أو صفة لنكتة: أي يريد كتابتها (قوله: فهاك) اسم فعل بمعنى خذ (قوله: مهذبا) بالكسر بصيغة اسم الفاعل بقرينة قوله مظهرا، أو هو أولى من الفتح لأنه أقل تكلفا والتهذيب: التنقية والإصلاح، وقوله: لمهمات مفعوله واللام للتقوية، وهو جمع مهمة: ما يهتم بتحصيله (قوله: استعملت) أي أعملت فالسين والتاء زائدتان، عبر بهما إشارة إلى الاعتناء والاجتهاد ط (قوله: فيها) أي في تحريرها ط (قوله: جن) أي ستر الأشياء بظلمته، والمادة تدل على الاستتار كالجن والجنان والجنين والجنة، وإنما خص الليل لكونه محل الأفكار غالبا، وفيه يزكو الفهم لقلة الحركة فيه. وعادة العلماء يتلذذون بالسهر في التحرير للمسائل كما قال التاج السبكي رحمه الله سهري لتنقيح العلوم ألذ لي من وصل غانية وطيب عناق وتمايلي طربا لحل عويصة في الذهن أبلغ من مدامة ساقي وصرير أقلامي على صفحاتها أشهى من الدوكاء والعشاق وألذ من نقر الفتاة لدفها نقري لألقي الرمل عن أوراقي (قوله: متحريا) حال من فاعل استعملت، والتحري: طلب أحرى الأمرين وأولاهما سيد (قوله: أرجح الأقوال) الإضافة على معنى من وهذا باعتبار غالب ما وقع له، وإلا فقد يذكر قولين مصححين أو يذكر الصحيح دون الأصح ط (قوله: وأوجز العبارة) أي أخصرها: والإضافة على معنى من ط (قوله: معتمدا) حال أيضا مترادفة أو متداخلة: أي معولا ط (قوله: الإيراد) أي الاعتراض (قوله: ألطف الإشارة) كأن يذكر في الكلام مضافا أو قيدا، أو نحو ذلك مما يدفع به الإيراد، ولا يظهر ذلك إلا لمن اطلع على كلام المورد، فإذا رأى ما ذكره الشارح علم أنه أشار به إلى دفع ذلك وربما صرح بما يشير إليه أيضا (قوله: في حكم) بأن يذكر إباحة ما ذكره غيره كراهته مثلا (قوله: أو دليل) بأن يكون دليل فيه كلام فيذكر غيره سالما، وهذا كله غير ما يصرح به وينبه عليه، كقوله ما ذكره فلان خطأ ونحو ذلك (قوله: فحسبه) أي ظن ما خالفت فيه غيري (قوله: من لا اطلاع له) أي على ما اطلعت عليه ولا فهم له بما قصدته (قوله: عدولا) أي ميلا عن السبيل، أي الطريق الواضح (قوله: تبعا لما شرح عليه المصنف) فإن المصنف لما شرح متنه غير منه بعض ألفاظ منبها على التغيير فبقيت نسخ المتن المجرد مخالفة لنسخة المتن المشروح فتابعه الشارح فيما غيره، وربما غير ما لم يغيره المصنف (قوله: وما درى) معطوف على محذوف أي فاعترض وما درى أفاده ط (قوله: وقد أنشدني) أنشد الشعر: قرأه قاموس، والمراد أسمعني هذا الشعر (قوله: الحبر) بالكسر ويفتح: العالم أو الصالح قاموس (قوله: السامي) أي العالي القدر (قوله: الطامي) أي الملآن قاموس (قوله: واحد زمانه) أي المنفرد في زمانه بالصفات (قوله: وحسنة أوانه) أي الذي أحسن الله تعالى به على الخلق في أوانه: أي زمانه أفاده ط أو الذي يعد حسنة لزمانه الكثير الإساءة على أبنائه (قوله: الشيخ خير الدين) الظاهر أنه اسمه العليمي؛ إذ ترجمه جماعة ولم يذكروا غيره منهم الأمير المحبي. قال خير الدين بن أحمد بن نور الدين علي بن زين الدين بن عبد الوهاب الأيوبي نسبة إلى بعض أجداده العليمي بالضم نسبة إلى سيدي علي بن عليم الولي المشهور. الفاروقي نسبة إلى الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الرملي الإمام المفسر المحدث الفقيه اللغوي الصوفي النحوي البياني العروضي المنطقي المعمر. شيخ الحنفية في عصره وصاحب الفتاوى السائرة وغيرها من التآليف النافعة في الفقه، منها حواشيه على المنح. وعلى شرح الكنز للعيني. وعلى الأشباه والنظائر. وعلى البحر الرائق. وعلى الزيلعي، وعلى جامع الفصولين، ورسائل، وديوان شعر مرتب على حروف المعجم. ولد سنة (993) وتوفي ببلده الرملة سنة (1081) وأطال في ذكر مناقبه وأحواله وبيان مشايخه وتلامذته فليراجع (قوله: أطال الله بقاءه) أي وجوده. والمراد الدعاء بالبركة في عمره، لأن الأجل محتوم، وذكر ط عن الشرعة وشرحها ما يفيد كراهة الدعاء بذلك. أقول: يرد عليه «أنه عليه الصلاة والسلام دعا لخادمه أنس رضي الله تعالى عنه بدعوات منها: وأطال عمره» ومذهب أهل السنة أن الدعاء ينفع وإن كان كل شيء بقدر. واستفيد من كلام الشارح أنه ألف كتابه هذا في حياة شيخه المذكور وهو كذلك، فإنه سيذكر آخر الكتاب أنه فرغ من تأليفه سنة (1071) فيكون قد فرغ من تأليفه قبل موت شيخه المذكور بعشر سنين (قوله: إن هذا الحديث إلخ) فيه من أنواع البديع المذهب الكلامي، وهو إيراد حجة للمطلوب على طريقة أهل الكلام نحو: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} وبيان أن تفضيل المرء بأوصافه لا بتقدمه، لأن كل متقدم قد كان حادثا ولم يزد بتقديمه عما كان عليه وقت حدوثه، وهذا المعاصر سيمضي عليه زمان يصير فيه قديما، فإذا فضلتم ذلك المتقدم بأوصافه لزمكم تفضيل ذلك المعاصر الذي سيبقى قديما بأوصافه أيضا. وهذا معنى قول الإمام المبرد: ليس لقدم العهد يفضل الفائل ولا لحداثته يهضم المصيب، ولكن يعطى كل ما يستحق. ا هـ. قال الدماميني في شرح التسهيل بعد نقله كلام المبرد: وكثير من الناس من تحرى هذه البلية الشنعاء، فتراهم إذا سمعوا شيئا من النكت الحسنة غير معزو إلى معين استحسنوه بناء على أنه للمتقدمين، فإذا علموا أنه لبعض أبناء عصرهم نكصوا على الأعقاب واستقبحوه، أو ادعوا أن صدور ذلك عن عصري مستبعد، وما الحامل لهم على ذلك إلا حسد ذميم وبغي مرتعه وخيم ا هـ. ملخصا (قوله: على أن إلخ) بمنزلة الاستدراك على ما يتوهم من قوله فهاك إلخ، من أن المراد مدح نفسه وتأليفه، وأن المقصود بالشهرة التأليف ط (قوله: شيخي) في بعض النسخ زيادة: وبركتي وولي نعمتي قال ط. البركة اتساع الخير، وولي فعيل بمعنى فاعل: أي متولي نعمتي، والمراد بالنعمة نعمة العلم التي هي من أعظم النعم ا هـ. (قوله: محمد أفندي) قال المحبي في تاريخه: هو ابن تاج الدين بن أحمد المحاسني الدمشقي الخطيب بجامع دمشق، أشهر آل بيت محاسن وأفضلهم، كان فاضلا كاملا أديبا لبيبا، لطيف الشكل وجيها، جامعا لمحاسن الأخلاق، حسن الصوت، ولي خطابة جامع السلطان سليم بصالحية دمشق، ثم صار إماما بجامع بني أمية وخطيبا فيه، وقرأ فيه صحيح مسلم، وكتب عليه بعض تعاليق. وولي درس الحديث تحت قبة النسر من الجامع المذكور، وكان فصيح العبارة. وانتفع به خلق من علماء دمشق، منهم شيخنا العلامة المحقق الشيخ علاء الدين الحصكفي مفتي الشام، وله شعر حسن وتحريرات تدل على علمه. ولد سنة (1012) وتوفي سنة (1072)، ورثاه شيخنا العلامة المحقق الشيخ عبد الغني النابلسي - بقصيدة جيدة إلى الغاية مطلعها قوله: ليهن رعاع الناس وليفرح الجهل فبعدك لا يرجو البقا من له عقل أيا جنة قرت عيون أولي النهى بها زمنا حتى تداركها المحل ا هـ. ملخصا (قوله: لكل بني الدنيا) أي لكل واحد من الناس الموجودين فيها، وسموا أبناءها لأنهم منها مادة وغذاء، وبها انتفاعهم. وفيها تربيتهم. وهي اسم لما قبل الآخرة لدنوها وقربها. ويحتمل أن يراد بأبنائها الطالبون لها المنهمكون فيها (قوله: صحة) أي في الجسد، وفراغ مما يشغل عن الآخرة (قوله: لأبلغ) علة لقوله وإن مرادي إلخ (قوله: مبلغا) مصدر ميمي منصوب على المفعولية المطلقة (قوله: في الجنان بلاغ) أي إيصال من الله تعالى إلى المراتب العالية فيها، وهو اسم مصدر. قال في القاموس: البلاغ كسحاب الكفاية والاسم منه الإبلاغ والتبليغ وهما الإيصال. ا هـ. (قوله: ففي مثل هذا) أي هذا المراد المذكور والفاء للسببية مفيدة للتعليل والجار والمجرور متعلق بينافس (قوله: فلينافس) أي يرغب والفاء زائدة مؤكدة للأولى، مثلها في قول الشاعر: وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي *** (قوله: أولو النهى) أي أصحاب العقول، وأما غيرهم فمنافستهم في الدنيا (قوله: وحسبي) مبتدأ: أي كافي ط (قوله: الغرور) فعول يستوي فيه المذكر والمؤنث: أي الغارة ا هـ. ط (قوله: بلاغ) أي مقدار الكفاية وهو خبر المبتدأ، وبينه وبين بلاغ الأول الجناس التام الخطي اللفظي أفاده ط (قوله: فما الفوز) أي النجاة والظفر بالخير قاموس، والفاء للسببية عاطفة على جملة ينافس مفيدة للتعليل (قوله: إلا في نعيم إلخ) في بمعنى الباء مثلها في قول الشاعر: ويركب يوم الروع منا فوارس *** بصيرون في طعن الكلى والأباهر لأن فاز يتعدى بالباء أو في للظرفية، والمراد بالنعيم محله: وهو الجنة، من إطلاق اسم الحال وإرادة المحل، مثل: {ففي رحمة الله هم فيها خالدون} وعلى كل فالفوز مبتدأ والجار والمجرور في محل الخبر، والتقدير ما الفوز حاصل بشيء إلا بنعيم، أو ما الفوز حاصل في محل إلا في محل نعيم، أو الخبر محذوف والجار والمجرور متعلق بالفوز: أي فما الفوز معتبر إلا بنعيم، والباء في به للسببية على الأول، أعني جعل " في " بمعنى الباء، وللظرفية على الثاني مثل: {ولقد نصركم الله ببدر} و {نجيناهم بسحر} (قوله: العيش) أي المعيشة التي تعيش بها من المطعم والمشرب وما يكون به الحياة قاموس (قوله: رغد) بسكون الغين المعجمة: أي واسع طيب ح عن القاموس (قوله: يساغ) أي يسهل دخوله في الحلق ح عن القاموس (قوله: مقدمة) بالرفع خبر لمبتدإ محذوف: أي هذه مقدمة أو بالنصب مفعول لفعل محذوف: أي خذ مقدمة، وهي بكسر الدال كما صرح به في الفائق، فهي اسم فاعل من قدم المتعدي: أي مقدمة من فهمها على غيره لما اشتملت عليه من تعريف الفقه لغة واصطلاحا. وموضوعه واستمداده محظوره ومباحه وفضل العلم وتعلمه وترجمة الإمام وغير ذلك، وإما من اللازم بمعنى تقدم: أي متقدمة بذاتها على غيرها، ويجوز فتح الدال اسم مفعول من المتعدي: أي قدمها أرباب العقول على غيرها لما اشتملت عليه، وهي في الأصل صفة ثم جعلت اسما للطائفة المتقدمة من الجيش، ثم نقلت إلى أول كل شيء، ثم جعلت اسما للألفاظ المخصوصة حقيقة عرفية إن لوحظ أنها فرد من أفراد المفهوم الكلي، أو مجازا إن لوحظ خصوصها. وهي قسمان: مقدمة العلم، وهي ما يتوقف عليه الشروع في مسائله من المعاني المخصوصة، ومقدمة الكتاب: وهي طائفة من الكلام قدمت أمام المقصود لارتباط له بها وانتفاع بها فيه، وتمام تحقيق ذلك في المطول وحواشيه. (قوله: حق) أي واجب صناعة ليكون شروعه على بصيرة صونا لسعيه عن العبث. (قوله: على من حاول) أي رام علما: أي علم كان من العلوم الشرعية وغيرها. فالشرعية علم التفسير والحديث والفقه والتوحيد، وغير الشرعية ثلاثة أقسام: أدبية، وهي اثنا عشر كما في شيخي زاده. وعدها بعضهم أربعة عشر: اللغة والاشتقاق والتصريف والنحو والمعاني والبيان والبديع والعروض والقوافي وقريض الشعر وإنشاء النثر والكتابة، والقراءات والمحاضرات ومنه التاريخ. ورياضية وهي عشرة: التصوف والهندسة والهيئة والعلم التعليمي والحساب والجبر والموسيقى والسياسة والأخلاق وتدبير المنزل. وعقلية: ما عدا ذلك كالمنطق والجدل وأصول الفقه والدين والعلم الإلهي والطبيعي والطب والميقات والفلسفة والكيمياء كذا ذكره بعضهم ا هـ. ابن عبد الرزاق. (قوله: أن يتصوره بحده أو رسمه) الحد: ما كان بالذاتيات كالحيوان الناطق للإنسان، والرسم ما كان بالعرضيات كالضاحك له. واعلم أنهم قد اختلفوا في أسماء العلوم، فقيل إنها اسم جنس لدخول أل عليها، وقيل علم جنس واختاره السيد، وقيل علم كالنجم للثريا واختاره ابن الهمام، وهل مسمى العلم إدراك المسائل أو المسائل نفسها أو الملكة الاستحضارية. قال السيد في شرح المفتاح: المعنى الحقيقي للعلم هو الإدراك، ولهذا المعنى متعلق هو المعلوم، وله تابع في الحصول يكون ذلك التابع وسيلة إليه في البقاء وهو الملكة. وقد أطلق العلم على كل منها إما حقيقة عرفية أو اصطلاحية أو مجازا مشهورا. ا هـ. ثم اعلم أن التعريف إما حقيقي كتعريف الماهيات الحقيقية، وإما اسمي كتعريف الماهيات الاعتبارية، وهو تبيين أن هذا الاسم لأي شيء وضع، وتمامه في التوضيح لصدر الشريعة. وذكر السيد في حواشي شرح الشمسية أن أرباب العربية والأصول يستعملون الحد بمعنى المعرف، وأن اللفظ إذا وضع في اللغة أو الاصطلاح لمفهوم مركب، فما كان داخلا فيه كان ذاتيا له. وما كان خارجا عنه كان عرضيا له، فحدود هذه المفهومات ورسومها تسمى حدودا ورسوما بحسب الاسم، بخلاف الحقائق فإن حدودها ورسومها بحسب الحقيقة. إذا علمت ذلك ظهر لك أن حد الفقه كغيره من العلوم حد اسمي لتبيين ما تعقله الواضع ووضع الاسم بإزائه فلذا جعلوه مقدمة للشروع. وجوز بعضهم كونه حدا حقيقيا، وعليه فقيل لا يكون مقدمة؛ لأن الحد الحقيقي بسرد العقل كل المسائل: أي بتصور جميع مسائل العلم المحدود وذلك هو معرفة العلم نفسه لا مقدمة الشروع فيه، وقيل يجوز أخذ جنس وفصل له بلا حاجة إلى سرد الكل فلا مانع من وقوعه مقدمة، وجعل في التحرير الخلاف لفظيا وتمام تحقيقه فيه فافهم. (قوله: ويعرف موضوعه إلخ) اعلم أن مبادئ كل علم عشرة نظمها ابن ذكري في تحصيل المقاصد فقال: فأول الأبواب في المبادي وتلك عشرة على المراد الحد والموضوع ثم الواضع والاسم واستمداد حكم الشارع تصور المسائل الفضيلة ونسبة فائدة جليلة بين الشارح منها أربعة وبقي ستة. فواضعه أبو حنيفة رحمه الله تعالى واسمه الفقه. وحكم الشارع فيه وجوب تحصيل المكلف ما لا بد له منه. ومسائله كل جملة موضوعها فعل المكلف. ومحمولها أحد الأحكام الخمسة، نحو هذا الفعل واجب. وفضيلته كونه أفضل العلوم سوى الكلام والتفسير والحديث وأصول الفقه. ونسبته لصلاح الظاهر كنسبة العقائد والتصوف لصلاح الباطن أفاده ح. (قوله: ثم خص بعلم الشريعة) نقله في البحر عن ضياء الحلوم. (قوله: وفقه إلخ) قال في البحر بعد كلام: والحاصل أن الفقه اللغوي مكسور القاف في الماضي والاصطلاحي مضمومها فيه كما صرح به الكرماني. ونقل العلامة الرملي في حاشيته عليه أنه يقال فقه بكسر القاف. إذا فهم، وبفتحها: إذا سبق غيره إلى الفهم، وبضمها: إذا صار الفقه له سجية. (قوله: اصطلاحا) الاصطلاح لغة الاتفاق. واصطلاحا اتفاق طائفة مخصوصة على إخراج الشيء عن معناه إلى معنى آخر رملي. (قوله: العلم بالأحكام إلخ) اعلم أن المحقق ابن الهمام أبدل العلم بالتصديق وهو الإدراك القطعي، سواء كان ضروريا أو نظريا صوابا أو خطأ بناء على أن الفقه كله قطعي. فالظن بالأحكام الشرعية وكذا الأحكام المظنونة ليسا من الفقه، وبعضهم خصه بالظنية، فيخرج عنه ما علم ثبوته قطعا. وبعضهم جعله شاملا للقطعي والظني. وقد نص غير واحد من المتأخرين على أنه الحق وعليه عمل السلف، وتمامه في شرح التحرير. فالمراد بالعلم هنا الإدراك الصادق على اليقين والظن كما هو اصطلاح المنطقي. وعلى الأول فالمراد به المقابل للظن كما هو اصطلاح الأصولي. قال صدر الشريعة في التوضيح: وما قيل إن الفقه ظني فلم أطلق العلم عليه؟ فجوابه أولا أنه مقطوع به، فإن الجملة التي ذكرنا أنها فقه وهي ما قد ظهر نزول الوحي به وما انعقد الإجماع عليه قطعية. وثانيا أن العلم يطلق على الظنيات وتمامه فيه فافهم. والأحكام جمع حكم، قيل هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين. ورده صدر الشريعة بأن الحكم المصطلح عليه عند الفقهاء ما ثبت بالخطاب كالوجوب والحرمة مجازا كالخلق على المخلوق ثم صار حقيقة عرفية. وخرج بها العلم بالذوات والصفات والأفعال، والمراد بالشرعية كما في التوضيح ما لا يدرك لولا خطاب الشارع، سواء كان الخطاب بنفس الحكم أو بنظيره المقيس هو عليه كالمسائل القياسية، فيخرج عنها مثل وجوب الإيمان والأحكام المأخوذة من العقل كالعلم بأن العالم حادث، أو من الحس كالعلم بأن النار محرقة، أو من الوضع والاصطلاح كالعلم بأن الفاعل مرفوع، والمراد بالفرعية المتعلقة بمسائل الفروع، فخرج الأصلية ككون الإجماع أو القياس حجة. وأما الاعتقادية ككون الإيمان واجبا فخرج بالشرعية كما تقدم فافهم، وقوله عن أدلتها أي ناشئا عن أدلتها حال من العلم: أي أدلتها الأربعة المخصوصة بها وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فخرج علم المقلد فإنه وإن كان قول المجتهد دليلا له لكنه ليس من تلك الأدلة المخصوصة، وخرج ما لم يحصل بالدليل كعلم الله تعالى وعلم جبريل عليه السلام. قال في البحر: واختلف في علم النبي صلى الله عليه وسلم الحاصل عن اجتهاد، هل يسمى فقها؟ والظاهر أنه باعتبار أنه دليل شرعي للحكم لا يسمى فقها، وباعتبار حصوله عن دليل شرعي يسمى فقها اصطلاحا. ا هـ. وأما المعلوم من الدين بالضرورة مثل الصوم والصلاة، فقيل إنه ليس من الفقه، إذ ليس حصوله بطريق الاستدلال وجعله في التوضيح منه، ولعل وجهه أن وصوله إلى حد الضرورة عارض لكونه صار من شعار الدين، فلا ينافي كونه في الأصل ثابتا بالدليل، إذ ليس هو من الضروريات البديهية التي لا تحتاج إلى نظر واستدلال ككون الكل أعظم من الجزء نعم يحتاج إلى إخراجه على قول من خص الفقه بالظني، وقوله التفصيلية تصريح بلازم كما حققه في التحرير، وغلط من جعله للاحتراز، وفي هذا المقام تحقيقات ذكرتها في [منحة الخالق فيما علقته على البحر الرائق]. (قوله: وعند الفقهاء إلخ) قال في البحر: فالحاصل أن الفقه في الأصول علم الأحكام من دلائلها كما تقدم، فليس الفقيه إلا المجتهد عندهم، وإطلاقه على المقلد الحافظ للمسائل مجاز. وهو حقيقة في عرف الفقهاء بدليل انصراف الوقت والوصية للفقهاء إليهم. وأقله ثلاثة أحكام كما في المنتقى. وذكر في التحرير أن الشائع إطلاقه على من يحفظ الفروع مطلقا يعني سواء كانت بدلائلها أو لا ا هـ. لكن سيذكر في باب الوصية للأقارب أن الفقيه من يدقق النظر في المسائل وإن علم ثلاث مسائل مع أدلتها، حتى قيل من حفظ ألوفا من المسائل لم يدخل تحت الوصية. ا هـ. لكن الظاهر أن هذا حيث لا عرف وإلا فالعرف الآن هو ما ذكر في التحرير أنه الشائع. وقد صرح الأصوليون بأن الحقيقة تترك بدلالة العادة، وحينئذ فينصرف في كلام الواقف والموصي إلى ما هو المتعارف في زمنه؛ لأنه حقيقة كلامه العرفية فتترك به الحقيقة الأصلية. (قوله: وعند أهل الحقيقة) هم الجامعون بين الشريعة والطريقة الموصلة إلى الله تعالى، والحقيقة لب الشريعة وسيأتي تمامه. (قوله: الزاهد في الآخرة) كذا في البحر. والذي في الغزنوية الراغب في الآخرة ابن عبد الرزاق. أقول: ومثله في الإحياء للإمام الغزالي بزيادة حيث قال: سأل فرقد السنجي الحسن عن شيء فأجابه، فقال إن الفقهاء يخالفونك، فقال الحسن: ثكلتك أمك، وهل رأيت فقيها بعينك؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة، البصير بدينه المداوم على عبادة ربه، الورع الكاف عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم الناصح لجماعتهم. (قوله: وموضوعه إلخ). موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية. قال في البحر: وأما موضوعه ففعل المكلف من حيث إنه مكلف؛ لأنه يبحث فيه عما يعرض لفعله من حل وحرمة ووجوب وندب، والمراد بالمكلف البالغ العاقل، ففعل غير المكلف ليس من موضوعه، وضمان المتلفات ونفقة الزوجات إنما المخاطب بها الولي لا الصبي والمجنون، كما يخاطب صاحب البهيمة بضمان ما أتلفته حيث فرط في حفظها لتنزيل فعلها في هذه الحالة بمنزلة فعله. وأما صحة عبادة الصبي كصلاته وصومه المثاب عليها فهي عليها عقلية من باب ربط الأحكام بالأسباب، ولذا لم يكن مخاطبا بها بل ليعتادها فلا يتركها بعد بلوغه إن شاء الله تعالى، وقيدنا بحيثية التكليف؛ لأن فعل المكلف لا من حيث التكليف ليس موضوعه كفعله من حيث إنه مخلوق الله تعالى. ا هـ. (قوله: ثبوتا أو سلبا) أي من حيث ثبوت التكليف به كالواجب والحرام، أو سلبه كالمندوب والمباح، وقصد بذلك دفع ما قد يقال إن قيد الحيثية مراعى، فالمراد فعل المكلف من حيث إنه مكلف كما مر. فيرد عليه أن فعل المكلف المندوب أو المباح من موضوع الفقه أيضا مع أنه لا تكليف فيه لجواز فعله وتركه. والجواب أنه يبحث عنه في الفقه من حيث سلب التكليف به عن طرفي فعل المكلف. مطلب الفرق بين المصدر والحاصل بالمصدر [تنبيه] قال في النهر: اعلم أن الفعل يطلق على المعنى الذي هو وصف للفاعل موجود كالهيئة المسماة بالصلاة من القيام والقراءة والركوع والسجود ونحوها كالهيئة المسماة بالصوم، وهي الإمساك عن المفطرات بياض النهار، وهذا يقال فيه الفعل بالمعنى الحاصل بالمصدر، وقد يطلق على نفس إيقاع الفاعل هذا المعنى، ويقال فيه الفعل بالمعنى المصدري: أي الذي هو أحد مدلولي الفعل، ومتعلق التكليف إنما هو الفعل بالمعنى الأول لا الثاني؛ لأن الفعل بالمعنى الثاني اعتباري لا وجود له في الخارج، إذ لو كان موجودا لكان له موقع فيكون له إيقاع وهكذا فيلزم التسلسل المحال، فأحكم هذا فإنه ينفعك في كثير من المحال ا هـ. (قوله: واستمداده) أي مأخذه. (قوله: من الكتاب إلخ) وأما شريعة من قبلنا فتابعة للكتاب. وأما أقوال الصحابة فتابعة للسنة، وأما تعامل الناس فتابع للإجماع، وأما التحري واستصحاب الحال فتابعان للقياس بحر، وبيان ما ذكر في كتب الأصول. (قوله: وغايته) أي ثمرته المترتبة عليه. (قوله: بسعادة الدارين) أي دار الدنيا بنقل نفسه من حضيض الجهل إلى ذروة العلم، وببيان ما للناس وما عليهم لقطع الخصومات ودار الآخرة بالنعم الفاخرة . (قوله: من غير سماع) أي من المعلم، وإذا كان النظر والمطالعة وهو دون السماع أفضل من قيام الليل فما بالك بالسماع. ا هـ. ح. أقول: وهذا إذا كان مع الفهم لما في فصول العلامي: من له ذهن يفهم الزيادة أي على ما يكفيه وقدر أن يصلي ليلا وينظر في العلم نهارا فنظره في العلم نهارا وليلا أفضل ا هـ. (قوله: أفضل من قيام الليل) أي بالصلاة ونحوها وإلا فهو من قيام الليل وإنما كان أفضل؛ لأنه من فروض الكفاية إن كان زائدا على ما يحتاجه: وإلا فهو فرض عين. (قوله: وتعلم الفقه إلخ) في البزازية تعلم بعض القرآن ووجد فراغا، فالأفضل الاشتغال بالفقه؛ لأن حفظ القرآن فرض كفاية، وتعلم ما لا بد من الفقه فرض عين. قال في الخزانة: وجميع الفقه لا بد منه: قال في المناقب: عمل محمد بن الحسن مائتي ألف مسألة في الحلال والحرام لا بد للناس من حفظها. ا هـ. وظاهر قوله وجميع الفقه لا بد منه أنه كله فرض عين، لكن المراد أنه لا بد منه لمجموع الناس فلا يكون فرض عين على كل واحد، وإنما يفرض عينا على كل واحد ما يحتاجه؛ لأن تعلم الرجل مسائل الحيض وتعلم الفقير مسائل الزكاة والحج ونحو ذلك فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين ومثله حفظ ما زاد على ما يكفيه للصلاة، نعم قد يقال تعلم باقي الفقه أفضل من تعلم باقي القرآن لكثرة حاجة العامة إليه في عباداتهم ومعاملاتهم وقلة الفقهاء بالنسبة إلى الحفظة تأمل. (قوله: أن يعرف) أي يشتهر به، وفيه إشارة إلى أن المطلوب أن يعرف من ذلك ما يعينه على المقصود؛ لأن ما عدا الفقه وسيلة إليه فلا ينبغي أن يصرف عمره في غير الأهم، وما أحسن قول ابن الوردي: والعمر عن تحصيل كل علم يقصر فابدأ منه بالأهم وذلك الفقه فإن منه ما لا غنى في كل حال عنه. (قوله: إلى المسألة) أي سؤال الناس بأن يمدحهم بشعره فيعطونه دفعا لشره وخوفا من هجوه وهجره، وقوله وتعليم الصبيان: أي تعليمهم النحو، وإنما خصهم لما اشتهر أن النحو علم الصبيان إذ قلما يتعلمه الكبير، وفي كلامه لف ونشر مرتب. (قوله: التذكير) أي الوعظ. (قوله: والقصص) الأنسب أن يكون بفتح القاف ليكون عطفه على التذكير عطف مصدر على مصدر وإن جاز أن يكون بكسرها جمع قصة. ا هـ. ح. (قوله: بل يكون علمه) أي الذي يعرف ويشتهر به. (قوله: كما قيل) أي أقول ذلك مماثلا لما قيل أو لأجل ما قيل، فالكاف للتشبيه أو للتعليل. (قوله: باعتزاز) أي اعتزاز صاحبه به. (قوله: ولا كمسك) الواو إما للعطف على مقدر: أي لا كعنبر ولا كمسك، ونكتة الحذف المبالغة لتذهب النفس كل مذهب ممكن، أو للحال بإضمار فعل: أي ولا يفوح كمسك. (قوله: ولا كباز) يستعمل بالياء المثناة التحتية بعد الزاي وبدونها كما في القاموس. (قوله: زمرة) بالضم: الفوج والجماعة في تفرقة قاموس. (قوله: ومن هنا) أي من أجل ما ذكر هنا من مدح الله تعالى إياه. (قوله: إلى كل العلوم) كذا فيما رأيت من النسخ، وكأن نسخة ط إلى كل المعالي حيث قال متعلق بتوسلا. والمعالي: المراتب العالية جمع معلاة، محل العلو. ا هـ. والتوسل: التقرب أي ذا توسل إلى المعالي أو إلى العلوم؛ لأن الفقه المثمر للتقوى والورع يوصل به إلى غيره من العلوم النافعة والمنازل المرتفعة {واتقوا الله ويعلمكم الله} والحديث: «من عمل بما علم علمه الله علم ما لم يعلم». (قوله: فإن فقيها إلخ) لأن العابد إذا لم يكن فقيها ربما أدخل عليه الشيطان ما يفسد عبادته، وقيد الفقيه بالمتورع إشارة إلى ثمرة الفقه التي هي التقوى إذ بدونها يكون دون العابد الجاهل حيث استولى عليه الشيطان بالفعل. قال في الإحياء. للورع أربع مراتب: الأولى ما يشترط في عدالة الشهادة، وهو الاحتراز عن الحرام الظاهر. الثانية ورع الصالحين، وهو التوقي من الشبهات التي تتقابل فيها الاحتمالات. الثالثة ورع المتقين، وهو ترك الحلال المحض الذي يخاف منه أداؤه إلى الحرام. الرابعة ورع الصديقين، وهو الإعراض عما سوى الله تعالى ا هـ. ملخصا. (قوله: على ألف) متعلق بقوله اعتلى وبقدر نظيره التفضل. ا هـ. ط، أو هو من باب التنازع على القول بجوازه في المتقدم. (قوله: ذي زهد) صفة لموصوف محذوف أي ألف شخص صاحب زهد. والزهد في اللغة: ترك الميل إلى الشيء. وفي اصطلاح أهل الحقيقة: هو بغض الدنيا والإعراض عنها. وقيل هو ترك راحة الدنيا طلبا لراحة الآخرة. وقيل هو أن يخلو قلبك مما خلت منه يدك ا هـ. سيد. (قوله: تفضل واعتلى) أي زاد في الفضل وعلو الرتبة. (قوله: وهما مأخوذان) أي هذان البيتان مأخوذ معناهما. (قوله: مما قيل) يحتمل أن المراد مما نسب أو مما أنشد، فعلى الأول تكون الأبيات للإمام محمد، وعلى الثاني لغيره أنشدها له بعض أشياخه. (قوله: تفقه إلخ) أي صر فقيها والقائد هنا بمعنى الموصل. والبر قال في القاموس: الصلة والجنة والخير والاتساع في الإحسان ا هـ. والتقوى قال السيد: هي في اللغة بمعنى الاتقاء، وهو اتخاذ الوقاية. وعند أهل الحقيقة: الاحتراز بطاعة الله تعالى عن عقوبته، وهو صيانة النفس عما تستحق به العقوبة من فعل أو ترك. والقاصد قال في القاموس: القريب: أي وأعدل طريق قريب. ويحتمل أن يكون بمعنى مقصود كساحل بمعنى مسحول، والزيادة مصدر بمعنى اسم المفعول، وقوله من الفقه متعلق بزيادة أو بمستفيد، أو السبح: قطع الماء عوما شبه به التفقه استعارة تصريحية، وإضافة البحور إلى الفوائد من إضافة المشبه به إلى المشبه. والفائدة: ما استفدته من علم أو مال، والمراد هنا الأول، والشيطان: من شاط بمعنى احترق، أو من شطن بمعنى بعد لبعد غوره في الضلال، وقد عقد في البيت الأخير بعض ما ذكره في الإحياء، ورواه الدارقطني والبيهقي من قوله صلى الله عليه وسلم: «ما عبد الله بشيء أفضل من فقه في الدين، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، ولكل شيء عماد وعماد الدين الفقه». (قوله: ومن كلام علي رضي الله عنه إلخ) عزا هذه الأبيات له في الإحياء أيضا. قال بعضهم: وهي ثابتة في ديوانه المنسوب إليه، وأولها: الناس من جهة التمثال أكفاء *** أبوهمو آدم والأم حواء وإنما أمهات الناس أوعية *** مستودعات وللأحساب آباء إن لم يكن لهمو من أصلهم شرف *** يفاخرون به فالطين والماء وإن أتيت بفخر من ذوي نسب *** فإن نسبتنا جود وعلياء (قوله: ما الفضل) الذي في الإحياء ما الفخر، وأل في العلم للعهد: أي العلم الشرعي الموصل إلى الآخرة. (قوله: أنهم) بفتح الهمزة على حذف لام العلة: أي لأنهم. أو بالكسر والجملة استئنافية. والمقصود منها التعليل ط. (قوله: على الهدى) أي الرشاد قاموس، وهو متعلق بقوله أدلاء جمع دال اسم فاعل من دل، وكذا قوله لمن استهدى: أي طلب الهداية. (قوله: ووزن) أي قدر كل امرئ. أي حسنه بما كان يحسنه أفاده البيضاوي، فقدر الصانع على مقدار صنعته. ومن أحسن علوم الآداب فقدره على قدرها. ومن أحسن علم الفقه فقدره عظيم لعظمه. فالحاصل أن من أحسن شيئا فمقامه على قدره ا هـ. ط. (قوله: والجاهلون) أي بالعلم الشرعي. فيشمل العالمين بغيره، بل هم أشد عداوة لعلماء الدين من العوام قال ط: وسبب العداوة من الجاهل عدم معرفة الحق إذا أفتى عليه أو رأى منه ما يخالف رأيه ورؤية إقبال الناس عليه. (قوله: ولا تجهل به أبدا) الذي في الإحياء: ولا تبغي به بدلا. (قوله: الناس موتى) أي حكما لعدم النفع كالأرض الميتة التي لا تنبت. قال تعالى: {أو من كان ميتا فأحييناه} أي جاهلا فعلمناه {وجعلنا له نورا يمشي به في الناس} وهو العلم {كمن مثله في الظلمات} وهو الجاهل الغارق في ظلمات الجهل أو موتى القلوب. قال في الإحياء وقال فتح الموصلي: المريض إذا منع الطعام والشراب والدواء أليس يموت؟ قالوا بلى، قال: كذلك القلب إذا منع عنه الحكمة والعلم ثلاثة أيام يموت، ولقد صدق فإن غذاء القلب العلم والحكمة وبه حياته، كما أن غذاء الجسد الطعام. ومن فقد العلم فقلبه مريض وموته لازم إلخ قال الشاعر: أخو العلم حي خالد بعد موته *** وأوصاله تحت التراب رميم وذو الجهل ميت وهو ماش على *** الثرى يظن من الأحياء وهو عديم (قوله: العلم يرفع المملوك إلخ) قال في الإحياء وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الحكمة تزيد الشريف شرفا وترفع المملوك حتى تجلسه مجالس الملوك» وقد نبه بهذا على ثمرته في الدنيا، ومعلوم أن الآخرة خير وأبقى. ا هـ. ثم ذكر عن سالم بن أبي الجعد قال: اشتراني مولاي بثلثمائة درهم فأعتقني، فقلت: بأي حرفة أحترف؟ فاحترفت بالعلم، فما تمت لي سنة حتى أتاني أمير المدينة زائرا فلم آذن له. (قوله: وإنما العلم إلخ) هذا بيت من بحر السريع، وقوله لأربابه متعلق بمحذوف حال من ولاية؛ لأن نعت النكرة إذا قدم عليها أعرب حالا أو صفة للعلم، وإنما لم يعزل صاحبه؛ لأنه ولاية إلهية لا سبيل للعباد إلى عزله منها: والمعتمد أن أولي الأمر في قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} هم العلماء كما سيذكره الشارح آخر الكتاب. وفي الإحياء قال أبو الأسود: ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك. ا هـ. وفي معناه قول الشاعر: إن الملوك ليحكمون على الورى *** وعلى الملوك لتحكم العلماء (قوله: إن الأمير إلخ) البيتان من مجزوء الكامل المرفل، يعني أن الأمير الكامل ليس هو من إذا عزل صار من آحاد الرعية، بل هو الذي إذا عزل من إمارة الولاية يبقى متصفا بإمارة الفضل والعلم (قوله: واعلم أن تعلم العلم إلخ) أي العلم الموصل إلى الآخرة أو الأعم منه. قال العلامي في فصوله: من فرائض الإسلام تعلمه ما يحتاج إليه العبد في إقامة دينه وإخلاص عمله لله تعالى ومعاشرة عباده. وفرض على كل مكلف ومكلفة بعد تعلمه علم الدين والهداية تعلم علم الوضوء والغسل والصلاة والصوم، وعلم الزكاة لمن له نصاب، والحج لمن وجب عليه والبيوع على التجار ليحترزوا عن الشبهات والمكروهات في سائر المعاملات. وكذا أهل الحرف، وكل من اشتغل بشيء يفرض عليه علمه وحكمه ليمتنع عن الحرام فيه ا هـ. مطلب في فرض الكفاية وفرض العين وفي تبيين المحارم لا شك في فرضية علم الفرائض الخمس وعلم الإخلاص؛ لأن صحة العمل موقوفة عليه وعلم الحلال والحرام وعلم الرياء؛ لأن العابد محروم من ثواب عمله بالرياء، وعلم الحسد والعجب إذ هما يأكلان العمل كما تأكل النار الحطب، وعلم البيع والشراء والنكاح والطلاق لمن أراد الدخول في هذه الأشياء وعلم الألفاظ المحرمة أو المكفرة، ولعمري هذا من أهم المهمات في هذا الزمان؛ لأنك تسمع كثيرا من العوام يتكلمون بما يكفر وهم عنها غافلون، والاحتياط أن يجدد الجاهل إيمانه كل يوم ويجدد نكاح امرأته عند شاهدين في كل شهر مرة أو مرتين، إذ الخطأ وإن لم يصدر من الرجل فهو من النساء كثير. (قوله: وفرض كفاية إلخ) عرفه في شرح التحرير بالمتحتم المقصود حصوله من غير نظر بالذات إلى فاعله. قال: فيتناول ما هو ديني كصلاة الجنازة، ودنيوي كالصنائع المحتاج إليها وخرج المسنون؛ لأنه غير متحتم، وفرض العين لأنه منظور بالذات إلى فاعله. ا هـ. قال في تبيين المحارم: وأما فرض الكفاية من العلم، فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب والحساب والنحو واللغة والكلام والقراءات وأسانيد الحديث وقسمة الوصايا والمواريث والكتابة والمعاني والبديع والبيان والأصول ومعرفة الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والنص والظاهر وكل هذه آلة لعلم التفسير والحديث، وكذا علم الآثار والأخبار والعلم بالرجال وأساميهم وأسامي الصحابة وصفاتهم، والعلم بالعدالة في الرواية، والعلم بأحوالهم لتمييز الضعيف من القوي، والعلم بأعمارهم وأصول الصناعات والفلاحة كالحياكة والسياسة والحجامة. ا هـ. (قوله: وهو ما زاد عليه) أي على قدر يحتاجه لدينه في الحال. مطلب فرض العين أفضل من فرض الكفاية [تنبيه] فرض العين أفضل من فرض الكفاية؛ لأنه مفروض حقا للنفس، فهو أهم عندها وأكثر مشقة، بخلاف فرض الكفاية فإنه مفروض حقا للكافة والكافر من جملتهم، والأمر إذا عم خف، وإذا خص ثقل. وقيل فرض الكفاية أفضل؛ لأن فعله مسقط للحرج عن الأمة بأسرها، وبتركه يعصي المتمكنون منه كلهم، ولا شك في عظم وقع ما هذه صفته. ا هـ. طواقي، ونقل ط أن المعتمد الأول. (قوله: وهو التبحر في الفقه) أي التوسع فيه والاطلاع على غوامضه وكذا غيره من العلوم الشرعية وآلاتها. (قوله: وعلم القلب) أي علم الأخلاق، وهو علم يعرف به أنواع الفضائل وكيفية اكتسابها وأنواع الرذائل وكيفية اجتنابها. ا هـ. ح وهو معطوف على الفقه لا على التبحر لما علمت من أن علم الإخلاص والعجب والحسد والرياء فرض عين، ومثلها غيرها من آفات النفوس: كالكبر والشح والحقد والغش والغضب والعداوة والبغضاء والطمع والبخل والبطر والخيلاء والخيانة والمداهنة والاستكبار عن الحق والمكر والمخادعة والقسوة وطول الأمل ونحوها مما هو مبين في ربع المهلكات من الإحياء. قال فيه: ولا ينفك عنها بشر، فيلزمه أن يتعلم منها ما يرى نفسه محتاجا إليه، وإزالتها فرض عين ولا يمكن إلا بمعرفة حدودها وأسبابها وعلاماتها وعلاجها، فإن من لا يعرف الشر يقع فيه. (قوله: الفلسفة) هو لفظ يوناني، وتعريبه الحكم المموهة: أي مزينة الظاهر فاسدة الباطن، كالقول بقدم العالم وغيره من المكفرات والمحرمات ط. وذكر في الإحياء أنها ليست علما برأسها بل هي أربعة أجزاء: أحدها: الهندسة والحساب، وهما مباحان، ولا يمنع منهما إلا من يخاف عليه أن يتجاوزهما إلى علوم مذمومة. والثاني: المنطق، وهو بحث عن وجه الدليل وشروطه ووجه الحد وشروطه، وهما داخلان في علم الكلام. والثالث: الإلهيات، وهو بحث عن ذات الله تعالى وصفاته، انفردوا فيه بمذاهب بعضها كفر وبعضها بدعة. والرابع: الطبيعيات، وبعضها مخالف للشرع، وبعضها بحث عن صفات الأجسام وخواصها وكيفية استحالتها وتغيرها، وهو شبيه بنظر الأطباء، إلا أن الطبيب ينظر في بدن الإنسان على الخصوص من حيث يمرض ويصح، وهم ينظرون في جميع الأجسام من حيث تتغير وتتحرك، ولكن للطب فضل عليه لأنه محتاج إليه. وأما علومهم في الطبيعيات فلا حاجة إليها ا هـ. (قوله: والشعبذة) الصواب الشعوذة، وهي كما في القاموس خفة في اليد كالسحر ترى الشيء بغير ما عليه أصله. ا هـ. حموي، لكن في المصباح شعوذ الرجل شعوذة، ومنهم من قال شعبذ شعبذة وهو بالذال المعجمة وليس من كلام أهل البادية، وهي لعب يرى الإنسان منها ما ليس له حقيقة كالسحر. ا هـ. ابن عبد الرزاق. وأفتى العلامة ابن حجر في أهل الحق في الطرقات الذين لهم أشياء غريبة كقطع رأس إنسان وإعادته وجعل نحو دراهم من التراب وغير ذلك بأنهم في معنى السحرة إن لم يكونوا منهم، فلا يجوز لهم ذلك ولا لأحد أن يقف عليهم، ثم نقل عن المدونة من كتب المالكية أن الذي يقطع يد الرجل أو يدخل السكين في جوفه إن كان سحرا قتل وإلا عوقب. مطلب في التنجيم والرمل (قوله: والتنجيم) هو علم يعرف به الاستدلال بالتشكلات الفلكية على الحوادث السفلية. ا هـ. ح. وفي مختارات النوازل لصاحب الهداية أن علم النجوم في نفسه حسن غير مذموم، إذ هو قسمان: حسابي وإنه حق، وقد نطق به الكتاب. قال الله تعالى: {الشمس والقمر بحسبان} أي سيرهما بحساب. واستدلالي بسير النجوم وحركة الأفلاك على الحوادث بقضاء الله تعالى وقدره، وهو جائز كاستدلال الطبيب بالنبض من الصحة والمرض ولو لم يعتقد بقضاء الله تعالى أو ادعى الغيب بنفسه يكفر، ثم تعلم مقدار ما يعرف به مواقيت الصلاة والقبلة لا بأس به. ا هـ. وأفاد أن تعلم الزائد على هذا المقدار فيه بأس بل صرح في الفصول بحرمته وهو ما مشى عليه الشارح. والظاهر أن المراد به القسم الثاني دون الأول؛ ولذا قال في الإحياء: إن علم النجوم في نفسه غير مذموم لذاته إذ هو قسمان إلخ ثم قال ولكنه مذموم في الشرع. وقال عمر: تعلموا من النجوم ما تهتدوا به في البر والبحر ثم امسكوا، وإنما زجر عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مضر بأكثر الخلق، فإنه إذا ألقى إليهم أن هذه الآثار تحدث عقيب سير الكواكب وقع في نفوسهم أنها المؤثرة، وثانيها: أن أحكام النجوم تخمين محض، ولقد كان معجزة لإدريس عليه السلام فيما يحكى وقد اندرس. وثالثها: أنه لا فائدة فيه، فإن ما قدر كائن والاحتراز منه غير ممكن ا هـ. ملخصا. (قوله: والرمل) هو علم بضروب أشكال من الخطوط والنقط بقواعد معلومة تخرج حروفا تجمع ويستخرج جملة دالة على عواقب الأمور، وقد علمت أنه حرام قطعا وأصله لإدريس عليه السلام ط أي فهو شريعة منسوخة. وفي فتاوى ابن حجر أن تعلمه وتعليمه حرام شديد التحريم لما فيه من إيهام العوام أن فاعله يشارك الله تعالى في غيبه. (قوله: وعلوم الطبائعيين) العلم الطبيعي علم يبحث فيه عن أحوال الجسم المحسوس من حيث هو معرض للتغير في الأحوال والثبات فيها. ا هـ. ح. وفي فتاوى ابن حجر: ما كان منه على طريق الفلاسفة حرام؛ لأنه يؤدي إلى مفاسد كاعتقاد قدم العالم ونحوه وحرمته مشابهة لحرمة التنجيم من حيث إفضاء كل إلى المفسدة. (قوله: والسحر) هو علم يستفاد منه حصول ملكة نفسانية يقتدر بها على أفعال غريبة لأسباب خفية. ا هـ. ح. وفي حاشية الإيضاح لبيري زاده قال الشمني: تعلمه وتعليمه حرام. أقول: مقتضى الإطلاق ولو تعلم لدفع الضرر عن المسلمين وفي شرح الزعفراني: السحر حق عندنا وجوده وتصوره وأثره. وفي ذخيرة الناظر تعلمه فرض لرد ساحر أهل الحرب، وحرام ليفرق به بين المرأة وزوجها، وجائز ليوفق بينهما. ا هـ. ابن عبد الرزاق. قال ط بعد نقله عن بعضهم عن المحيط: وفيه أنه ورد في الحديث النهي عن التولة بوزن عنبة: وهي ما يفعل ليحبب المرأة إلى زوجها. ا هـ. أقول: بل نص على حرمتها في الخانية، وعلله ابن وهبان بأنه ضرب من السحر. قال ابن الشحنة ومقتضاه أنه ليس مجرد كتابة آيات، بل فيه شيء زائد ا هـ. وسيأتي تمامه قبيل إحياء الموات إن شاء الله تعالى. وذكر في فتح القدير أنه لا تقبل توبة الساحر والزنديق في ظاهر المذهب فيجب قتل الساحر ولا يستتاب بسعيه بالفساد لا بمجرد علمه إذا لم يكن في اعتقاده ما يوجب كفره ا هـ. وذكر في تبيين المحارم عن الإمام أبي منصور أن القول بأن السحر كفر على الإطلاق خطأ ويجب البحث عن حقيقته، فإن كان في ذلك رد ما لزم في شرط الإيمان فهو كفر وإلا فلا. ا هـ. أقول: وقد ذكر الإمام القرافي المالكي الفرق بين ما هو سحر يكفر به وبين غيره، وأطال في ذلك بما يلزم مراجعته من أواخر شرح اللقاني الكبير على الجوهرة. ومن كتاب [الإعلام في قواطع الإسلام] للعلامة ابن حجر. مطلب السحر أنواع وحاصله أن السحر اسم جنس لثلاثة أنواع: الأول: السيمياء، وهي ما يركب من خواص أرضية كدهن خاص أو كلمات خاصة توجب إدراك الحواس الخمس أو بعضها بما له وجود حقيقي، أو بما هو تخيل صرف من مأكول أو مشموم أو غيرهما. الثاني: الهيمياء، وهي ما يوجب ذلك مضافا لآثار سماوية لا أرضية. الثالث: بعض خواص الحقائق، كما يؤخذ سبع أحجار يرمى بها نوع من الكلاب إذا رمى بحجر عضه، فإذا عضها الكلب وطرحت في ماء فمن شربه ظهرت عليه آثار خاصة فهذه أنواع السحر الثلاثة، قد تقع بما هو كفر من لفظ أو اعتقاد أو فعل، وقد تقع بغيره كوضع الأحجار. وللسحر فصول كثيرة في كتبهم. فليس كل ما يسمى سحرا كفرا، إذ ليس التكفير به لما يترتب عليه من الضرر بل لما يقع به مما هو كفر كاعتقاد انفراد الكواكب: بالربوبية أو إهانة قرآن أو كلام مكفر ونحو ذلك ا هـ. ملخصا، وهذا موافق لكلام إمام الهدى أبي منصور الماتريدي، ثم إنه لا يلزم من عدم كفره مطلقا عدم قتله؛ لأن قتله بسبب سعيه بالفساد كما مر. فإذا ثبت إضراره بسحره ولو بغير مكفر: يقتل دفعا لشره كالخناق وقطاع الطريق. مطلب في الكهانة (قوله: والكهانة) وهي تعاطي الخبر عن الكائنات في المستقبل وادعاء معرفة الأسرار. قال في نهاية الحديث: وقد كان في العرب كهنة كشق وسطيح، فمنهم من كان يزعم أن له تابعا يلقي إليه الأخبار عن الكائنات، ومنهم أنه يعرف الأمور بمقدمات يستدل بها على موافقها من كلام من يسأله أو حاله أو فعله وهذا يخصونه باسم العراف كالمدعي معرفة المسروق ونحوه، وحديث: «من أتى كاهنا» يشمل العراف والمنجم. والعرب تسمي كل من يتعاطى علما دقيقا كاهنا، ومنهم من يسمي المنجم والطبيب كاهنا ا هـ. ابن عبد الرزاق. (قوله: ودخل في الفلسفة المنطق) لأنه الجزء الثاني منها كما قدمناه. والمراد به المذكور في كتبهم للاستدلال على مذاهبهم الباطلة. أما منطق الإسلاميين الذي مقدماته قواعد إسلامية فلا وجه للقول بحرمته بل سماه الغزالي معيار العلوم، وقد ألف فيه علماء الإسلام ومنهم المحقق ابن الهمام فإنه أتى منه ببيان معظم مطالبه في مقدمة كتابه التحرير الأصولي. (قوله: علم الحرف) يحتمل أن المراد به الكاف الذي هو إشارة إلى الكيمياء، ولا شك في حرمتها لما فيها من ضياع المال والاشتغال بما لا يفيد. ويحتمل أن المراد به جمع حروف يخرج منها دلالة على حركات. ويحتمل أن المراد علم أسرار الحروف بأوفاق الاستخدام وغير ذلك. ا هـ. ط. ويحتمل أن المراد الطلسمات، وهي كما في شرح اللقاني نقش أسماء خاصة لها تعلق بالأفلاك والكواكب على زعم أهل هذا العلم في أجسام من المعادن أو غيرها تحدث لها خاصة ربطت بها في مجاري العادات. ا هـ. هذا وقد ذكر العلامة ابن حجر في باب الأنجاس من التحفة أنه اختلف في انقلاب الشيء عن حقيقته كالنحاس إلى الذهب هل هو ثابت؟ فقيل نعم لانقلاب العصا ثعبانا حقيقة وإلا لبطل الإعجاز. وقيل لا لأن قلب الحقائق محال. والحق الأول إلى أن قال: تنبيه، كثيرا ما يسأل عن علم الكيمياء وتعلمه هل يحل أو لا، ولم نر لأحد كلاما في ذلك. والذي يظهر أنه ينبني على هذا الخلاف، فعلى الأول من علم العلم الموصل لذلك القلب علما يقينيا جاز له علمه وتعليمه إذ لا محذور فيه بوجه، وإن قلنا بالثاني أو لم يعلم الإنسان ذلك العلم اليقيني وكان ذلك وسيلة إلى الغش فالوجه الحرمة ا هـ. ملخصا. وحاصله أنه إذا قلنا بإثبات قلب الحقائق وهو الحق جاز العمل به وتعلمه؛ لأنه ليس بغش لأن النحاس ينقلب ذهبا أو فضة حقيقة. وإن قلنا إنه غير ثابت لا يجوز؛ لأنه غش كما لا يجوز لمن لا يعلمه حقيقة لما فيه من إتلاف المال أو غش المسلمين والظاهر أن مذهبنا ثبوت انقلاب الحقائق بدليل ما ذكروه في انقلاب عين النجاسة. كانقلاب الخمر خلا والدم مسكا ونحو ذلك، والله أعلم. (قوله: وعلم الموسيقي) بكسر القاف: وهو علم رياضي يعرف منه أحوال النغم والإيقاعات، وكيفية تأليف اللحون، وإيجاد الآلات. وموضوعه الصوت من جهة تأثيره في النفوس باعتبار نظامه في طبقته وزمانه. وثمرته بسط الأرواح وتعديلها وتفويتها وقبضها أيضا. مطلب في الكلام على إنشاد الشعر (قوله: وهو أشعار المولدين) أي الشعراء الذين حدثوا بعد شعراء العرب. قال في القاموس: المولدة المحدثة من كل شيء ومن الشعراء لحدوثهم. وفي آخر الريحانة للشهاب الخفاجي: بلغاء العرب في الشعر والخطب على ست طبقات: الجاهلية الأولى من عاد وقحطان. والمخضرمون. وهم من أدرك الجاهلية والإسلام. والإسلاميون والمولدون والمحدثون والمتأخرون ومن ألحق بهم من العصريين، والثلاثة الأول هم ما هم في البلاغة والجزالة. ومعرفة شعرهم رواية ودراية عند فقهاء الإسلام فرض كفاية؛ لأنه به تثبت قواعد العربية التي بها يعلم الكتاب والسنة المتوقف على معرفتهما الأحكام التي يتميز بها الحلال من الحرام. وكلامهم وإن جاز فيه الخطأ في المعاني فلا يجوز فيه الخطأ في الألفاظ وتركيب المباني ا هـ. (قوله: عن الغزل) المراد به ما فيه وصف النساء والغلمان. وهو في الأصل كما في القاموس: اسم لمحادثة النساء. وعطف عليه قوله والبطالة عطف عام على خاص لأنه نوع منها. فشمل وصف حال المحب مع المحبوب أو مع عذاله من الوصل والهجر واللوعة والغرام ونحو ذلك. قال في المصباح: البطالة نقيض العمالة. من بطل الأجير من العمل فهو بطال بين البطالة بالفتح وحكي بالكسر وهو أفصح وربما قيل بالضم. وذكر ابن عبد الرزاق أنه وجد بهامش المصباح بخط مصنفه ما حاصله: الفعالة بالفتح قد يكون وصفا للطبيعة كالرزانة والجهالة. وبالكسر للصناعة كالتجارة. وبالضم لما يرمى كالقلامة. وقد يضمن اللفظ المعاني الثلاثة فيجوز فيه الحركات الثلاثة، فالبطالة بالفتح لأنه وصف ثابت، وبالكسر لأنه أشبه الصناعة للمداومة عليها، وبالضم لأنها مما يرفض. ا هـ. أقول: وعلى هذا يمكن أن يكون إشارة إلى أن المكروه منه ما داوم عليه وجعله صناعة له حتى غلب عليه وأشغله عن ذكر الله تعالى وعن العلوم الشرعية. وبه فسر الحديث المتفق عليه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير من أن يمتلئ شعرا»، فاليسير من ذلك لا بأس به إذا قصد به إظهار النكات واللطافات والتشابيه الفائقة والمعاني الرائقة، وإن كان في وصف الخدود والقدود، فإن علماء البديع قد استشهدوا من ذلك بأشعار المولدين وغيرهم لهذا القصد. وقد ذكر المحقق ابن الهمام في إشهادات فتح القدير أن المحرم منه ما كان في اللفظ ما لا يحل كصفة الذكور والمرأة المعينة الحية ووصف الخمر المهيج إليها والحانات والهجاء لمسلم أو ذمي إذا أراد المتكلم هجاءه، لا إذا أراد إنشاد الشعر للاستشهاد به أو ليعلم فصاحته وبلاغته. ويدل على أن وصف المرأة كذلك غير مانع إنشاد أبي هريرة رضي الله عنه لذلك وهو محرم، وكذا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومما يقطع به في هذا قول كعب رضي الله عنه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم: وما سعاد غداة البين إذ رحلوا إلا أغن غضيض الطرف مكحول تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت كأنه منهل بالراح معلول وكثير في شعر حسان رضي الله تعالى عنه من هذا كقوله وقد سمعه النبي صلى الله عليه وسلم: تبلت فؤادك في المنام خريدة *** تسقي الضجيع ببارد بسام فأما الزهريات المجردة عن ذلك المتضمنة وصف الرياحين والأزهار والمياه فلا وجه لمنعه نعم إذا قيل على الملاهي امتنع وإن كان مواعظ وحكما ا هـ. ملخصا. وفي الذخيرة عن النوازل قراءة شعر الأدب إذا كان فيه ذكر الفسق والخمر والغلام يكره، والاعتماد في الغلام على ما ذكرنا في المرأة: أي من أنها إن كانت معينة حية يكره، وإن كانت ميتة فلا. ا هـ. وسيأتي تمام الكلام على ذلك أيضا قبيل باب الوتر والنوافل إن شاء الله تعالى. (قوله: التي لا يستخف فيها) أي ليس فيها استخفاف بأحد من المسلمين كذكر عوراته والأخذ في عرضه. وفي بعض نسخ الأشباه لا سخف فيها: أي لا رقة وخفة ابن عبد الرزاق. (قوله: ثم في نقل) أي في الفوائد آخر الفن الثالث من الأشباه عن المناقب البزازي وذكر الحلبي عبارته بتمامها، واقتصر الشارح على محطها: أي المقصود منها. (قوله: وفيها) أي في الأشباه نقلا عن شرح البهجة للعراقي. (قوله: غير الأنبياء) كان ينبغي أن يقول والمبشرين بالجنة كالعشرة رضي الله تعالى عنهم قاله سيدي عبد الغني النابلسي في شرح هدية ابن العماد. (قوله: له) أي من الثواب الجزيل حيث أراد به تعالى الخير. (قوله: وبه) أي ولا يعلم ما أراد الله تعالى به من الصفات الحميدة. (قوله: إلا الفقهاء) المراد بهم العالمون بأحكام الله تعالى اعتقادا وعملا؛ لأن تسمية علم الفروع فقها تسمية حادثة، قال سيدي عبد الغني: ويؤيده ما مر من قول الحسن البصري إنما الفقيه المعرض عن الدنيا الراغب في الآخرة إلخ. (قوله: وفيها كل شيء إلخ) نقله في الأشباه عن الفصوص والظاهر أنها فصوص الحكم للشيخ الأكبر قدس سره الأنوار. (قوله: إلا العلم) أورد عليه الحموي أنه ورد في الحديث ما يفيد السؤال عن العلم، ولفظه: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أي شيء اكتسبه؟ وعن علمه ماذا صنع به». وأجيب بأن المراد إلا طلب الزيادة من العلم وبه يصح التعليل. واعترض بأنه يسأل عن طلبه هل قصد به الرياء أو الجاه. ويدل عليه ما في الحديث السابق: «ولكن تعلمت العلم ليقال عالم. وقد قيل» إلخ. أقول: الأوجه أن يقال المراد به العلم النافع الموصل إلى الله تعالى. وهو المقرون بحسن النية مع العمل به والتخلص من آفات النفس، فلا يسأل عنه لأنه خير محض. بخلاف غيره فإنه يسأل صاحبه عنه ليعذبه به كما دل عليه تمام الحديث السابق: ولذا ورد في الحديث: «إن الله تعالى يبعث العباد يوم القيامة ثم يبعث العلماء. ثم يقول: يا معشر العلماء إني لم أضع علمي فيكم إلا لعلمي بكم، ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم. اذهبوا فقد غفرت لكم» هذا ما ظهر لي. والله تعالى أعلم. (قوله: وفيها) أي في الأشباه عن آخر المصفى للإمام النسفي. (قوله: عن مذهبنا) أي عن صفته فالمعنى إذا سئلنا أي المذاهب صواب ط. (قوله: مخالفنا) أي من خالفنا في الفروع من الأئمة المجتهدين. (قوله: قلنا إلخ) لأنك لو قطعت القول لما صح قولنا إن المجتهد يخطئ ويصيب أشباه: أي فلا نجزم بأن مذهبنا صواب ألبتة ولا بأن مذهب مخالفنا خطأ ألبتة، بناء على المختار من أن حكم الله في كل مسألة واحد معين وجب طلبه. فمن أصابه فهو المصيب ومن لا فهو المخطئ. ونقل عن الأئمة الأربعة: ثم المختار أن المخطئ مأجور كما في التحرير وشرحه. مطلب يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل ثم اعلم أنه ذكر في التحرير وشرحه أيضا أنه يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل. وبه قال الحنفية والمالكية وأكثر الحنابلة والشافعية. وفي رواية عن أحمد وطائفة كثيرة من الفقهاء لا يجوز. ثم ذكر أنه لو التزم مذهبا معينا. كأبي حنيفة والشافعي، فقيل يلزمه، وقيل لا وهو الأصح ا هـ. وقد شاع أن العامي لا مذهب له. إذا علمت ذلك ظهر لك أن ما ذكر عن النسفي من وجوب اعتقاد أن مذهبه صواب يحتمل الخطأ مبني على أنه لا يجوز تقليد المفضول وأنه يلزمه التزام مذهبه وأن ذلك لا يتأتى في العامي. وقد رأيت في آخر فتاوى ابن حجر الفقهية التصريح ببعض ذلك فإنه سئل عن عبارة النسفي المذكورة، ثم حرر أن قول أئمة الشافعية كذلك، ثم قال إن ذلك مبني على الضعيف من أنه يجب تقليد الأعلم دون غيره. والأصح أنه يتخير في تقليد أي شاء ولو مفضولا وإن اعتقده كذلك، وحينئذ فلا يمكن أن يقطع أو يظن أنه على الصواب، بل على المقلد أن يعتقد أن ما ذهب إليه إمامه يحتمل أنه الحق. قال ابن حجر: ثم رأيت المحقق ابن الهمام صرح بما يؤيده حيث قال في شرح الهداية: إن أخذ العامي بما يقع في قلبه أنه أصوب أولى، وعلى هذا استفتى مجتهدين فاختلفا عليه الأولى أن يأخذ بما يميل إليه قلبه منهما. وعندي أنه لو أخذ بقول الذي لا يميل إليه جاز؛ لأن ميله وعدمه سواء، والواجب عليه تقليد مجتهد وقد فعل. ا هـ. (قوله: عن معتقدنا) أي عما نعتقد من غير المسائل الفرعية مما يجب اعتقاده على كل مكلف بلا تقليد لأحد وهو ما عليه أهل السنة والجماعة وهم الأشاعرة والماتريدية، وهم متوافقون إلا في مسائل يسيرة أرجعها بعضهم إلى الخلاف اللفظي كما بين في محله. (قوله: ومعتقد خصومنا) أي من أهل البدع المكفرة وغيرها كالقائلين بقدم العالم أو نفي الصانع أو عدم بعثة الرسل، والقائلين بخلق القرآن وعدم إرادته تعالى الشر ونحو ذلك. (قوله: علم نضج وما احترق) المراد بنضج العلم تقرر قواعده وتفريع فروعها وتوضيح مسائله، والمراد باحتراقه بلوغه النهاية في ذلك، ولا شك أن النحو والأصول لم يبلغا النهاية في ذلك أفاده ح. والظاهر أن المراد بالأصول أصول الفقه؛ لأن أصول العقائد في غاية التحرير والتنقيح تأمل. (قوله: وهو علم البيان) المراد به ما يعم العلوم الثلاثة: المعاني والبيان والبديع؛ ولذا قال الزمخشري: إن منزلة علم البيان من العلوم مثل منزلة السماء من الأرض، ولم يقفوا على ما في القرآن جميعه من بلاغته وفصاحته ونكته وبديعاته، بل على النزر اليسير. قال الله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} وإنما ذلك لما فيه من البلاغة ط. (قوله: والتفسير) أي تفسير القرآن فقد ذكر السيوطي في الإتقان أن القرآن في اللوح المحفوظ، كل حرف منه بمنزلة جبل قاف، وكل آية تحتها من التفاسير ما لا يعلمه إلا الله تعالى ط. (قوله: علم الحديث) لأنه قد تم المراد منه؛ وذلك لأن المحدثين جزاهم الله تعالى خيرا وضعوا كتبا في أسماء الرجال ونسبهم والفرق بين أسمائهم، وبينوا سيئ الحفظ منهم وفاسد الرواية من صحيحها، ومنهم من حفظ المائة ألف والثلثمائة، وحصروا من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة، وبينوا الأحكام والمراد منها فانكشفت حقيقته ط. (قوله: والفقه) لأن حوادث الخلائق على اختلاف مواقعها وتشتتاتها مرقومة بعينها أو ما يدل عليها، بل قد تكلم الفقهاء على أمور لا تقع أصلا أو تقع نادرا، وأما ما لم يكن منصوصا فنادر، وقد يكون منصوصا غير أن الناظر يقصر عن البحث عن محله أو عن فهم ما يفيده مما هو منصوص بمفهوم أو منطوق ط، أو يقال المراد بالفقه ما يشمل مذهبنا وغيره فإنه بهذا المعنى لا يقبل الزيادة أصلا فإنه لا يجوز إحداث قول خارج عن المذاهب الأربعة. (قوله: وقد قالوا الفقه) أي الفقه الذي استنبطه أبو حنيفة أو أعم. (قوله: زرعه) أي أول من تكلم باستنباط فروعه عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل، أحد السابقين والبدريين والعلماء الكبار من الصحابة. أسلم قبل عمر رضي الله تعالى عنهما. قال النووي في التقريب: وعن مسروق أنه قال: انتهى علم الصحابة إلى ستة: عمر وعلي وأبي وزيد وأبي الدرداء وابن مسعود، ثم انتهى علم الستة إلى علي وعبد الله بن مسعود. (قوله: وسقاه) أي أيده ووضحه علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك النخعي الفقيه الكبير، عم الأسود بن يزيد وخال إبراهيم النخعي. ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ القرآن والعلم عن ابن مسعود وعلي وعمر وأبي الدرداء وعائشة. (قوله: وحصده) أي جمع ما تفرق من فوائده ونوادره وهيأه للانتفاع به إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود أبو عمران النخعي الكوفي، الإمام المشهور الصالح الزاهد. روى عن الأعمش وخلائق توفي سنة ست أو خمس وتسعين. (قوله: وداسه) أي اجتهد في تنقيحه وتوضيحه حماد بن مسلم الكوفي شيخ الإمام وبه تخرج. وأخذ حماد بعد ذلك عنه، قال الإمام ما صليت صلاة إلا استغفرت له مع والدي مات سنة مائة وعشرين. (قوله: وطحنه) أي أكثر أصوله وفرع فروعه وأوضح سبله إمام الأئمة وسراج الأمة أبو حنيفة النعمان، فإنه أول من دون الفقه ورتبه أبوابا وكتبا على نحو ما عليه اليوم، وتبعه مالك في موطئه، ومن كان قبله إنما كانوا يعتمدون على حفظهما. وهو أول من وضع كتاب الفرائض وكتاب الشروط، كذا في الخيرات الحسان في ترجمة أبي حنيفة النعمان للعلامة ابن حجر (قوله: وعجنه) أي دقق النظر في قواعد الإمام وأصوله واجتهد في زيادة استنباط الفروع منها، والأحكام تلميذ الإمام الأعظم أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم قاضي القضاة، فإنه كما رواه الخطيب في تاريخه أول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة، وأملى المسائل ونشرها وبث علم أبي حنيفة في أقطار الأرض، وهو أفقه أهل عصره، ولم يتقدمه أحد في زمانه، وكان النهاية في العلم والحكم والرياسة. ولد سنة (113) وتوفي ببغداد سنة (182). (قوله: وخبزه) أي زاد في استنباط الفروع وتنقيحها وتهذيبها وتحريرها بحيث لم تحتج إلى شيء آخر الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة وأبي يوسف محرر المذهب النعماني، المجمع على فقاهته ونباهته. روي أنه سأل رجل المزني عن أهل العراق، فقال: ما تقول في أبي حنيفة؟ فقال: سيدهم، قال: فأبو يوسف؟ قال: أتبعهم للحديث، قال: فمحمد بن الحسن قال: أكثرهم تفريعا قال: فزفر؟ قال أحدهم قياسا، ولد سنة (132) وتوفي بالري سنة (189). (قوله: من خبزه) بالضم أي خبز محمد الذي خبزه من عجين أبي يوسف من طحين أبي حنيفة، ولذا روى الخطيب عن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه. كان أبو حنيفة ممن وفق له الفقه. (قوله: فقال) أي من بحر البسيط، وترتيب هذا النظر بخلاف الترتيب قبله وسقط منه حماد. (قوله: علمه) أي محمد. (قوله: كالجامعين) الصغير والكبير. وقد ألفت في المذهب تآليف سميت بالجامع فوق ما ينوف عن أربعين، وكل تأليف لمحمد وصف بالصغير فهو من روايته عن أبي يوسف عن الإمام، وما وصف بالكبير فروايته عن الإمام بلا واسطة ط. (قوله: والنوادر) الأولى إبدالها بالسير؛ لأن هذه الكتب الخمسة هي كتب محمد المسماة بالأصل وظاهر الرواية؛ لأنها رويت عنه برواية الثقات، فهي ثابتة عنه متواترة أو مشهورة، وفيها المسائل المروية عن أصحاب المذهب، وهم أبو ح وأبو س وم. وأما النوادر فهي مسائل مروية عنهم في كتب أخر لمحمد كالكيسانيات والهارونيات والجرجانيات والرقيات وهي دون الأولى، وبقي قسم ثالث، وهو مسائل النوازل سئل عنها المشايخ المجتهدون في المذهب ولم يجدوا فيها نصا فأفتوا فيها تخريجا، وقد نظمت ذلك فقلت: وكتب ظاهر الرواية أتت ستا لكل ثابت عنهم حوت صنفها محمد الشيباني حرر فيها المذهب النعماني الجامع الصغير والكبير والسير الكبير والصغير ثم الزيادات مع المبسوط تواترت بالسند المضبوط كذا له مسائل النوادر إسنادها في الكتب غير ظاهر وبعدها مسائل النوازل خرجها الأشياخ بالدلائل وسيأتي بسط ذلك آخر المقدمة. وفي طبقات التميمي عن شرح السير الكبير للسرخسي أن السير الكبير آخر تصنيف صنفه محمد في الفقه. وكان سببه أن السير الصغير وقع بيد الأوزاعي إمام أهل الشام فقال ما لأهل العراق والتصنيف في هذا الباب. فإنه لا علم لهم بالسير، فبلغ محمدا فصنف الكبير، فحكى أنه لما نظر فيه الأوزاعي قال: لولا ما ضمنه من الأحاديث لقلت إنه يضع العلم، وإن الله تعالى عين جهة إصابة الجواب في رأيه، صدق الله تعالى: {وفوق كل ذي علم عليم} ثم أمر محمد أن يكتب في ستين دفترا، وأن يحمل إلى الخليفة فأعجبه وعده من مفاخر أيامه ا هـ. ملخصا. (قوله: فبسببه صار الشافعي فقيها) أي ازداد فقاهة، واطلع على مسائل لم يكن مطلعا عليها، فإن محمدا أبدع في كثرة استخراج المسائل، وإلا فالشافعي رضي الله تعالى عنه فقيه مجتهد قبل وروده إلى بغداد، وكيف يستفاد الاجتهاد المطلق ممن ليس كذلك أفاده ح. (قوله: والله ما صرت فقيها) الكلام فيه كما تقدم. وروي عن الشافعي أنه قال أيضا: حملت من علم ابن الحسن وقر بعير كتبا. وقال: أمن الناس علي في الفقه محمد بن الحسن. (قوله: هيهات) اسم فعل: أي بعد مكانه عني وعن أبي يوسف ط. (قوله: في أعلى عليين) اسم لأعلى الجنة: أي هو في أعلى مكان في الجنة أي بالنسبة إليهما لا مطلقا؛ لأن الأنبياء والصحابة أرفع منه درجة قطعا. وأما الدعاء بنحو اجعلني مع النبيين فالمراد في الاجتماع والمؤانسة لا في الدرجة والمنزلة، ومنه قوله تعالى: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين} إلخ ط. (قوله: كيف) استفهام إنكاري بمعنى النفي: أي كيف لا يعطى هذا المكان الأعلى ط. (قوله: ولها) أي لرؤيته ربه تعالى في المنام قصة مشهورة ذكرها الحافظ النجم الغيطي. وهي أن الإمام رضي الله عنه قال: رأيت رب العزة في المنام تسعا وتسعين مرة فقلت في نفسي إن رأيته تمام المائة لأسألنه: بم ينجو الخلائق من عذابه يوم القيامة. قال: فرأيته سبحانه وتعالى فقلت: يا رب عز جارك وجل ثناؤك وتقدست أسماؤك، بم ينجو عبادك يوم القيامة من عذابك؟ فقال سبحانه وتعالى: من قال بعد الغداة والعشي: سبحان الأبدي الأبد، سبحان الواحد الأحد، سبحان الفرد الصمد، سبحان رافع السماء بلا عمد، سبحان من بسط الأرض على ماء جمد، سبحان من خلق الخلق فأحصاهم عدد، سبحان من قسم الرزق ولم ينس أحد، سبحان الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولد، سبحان الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، نجا من عذابي. ا هـ. ط. (قوله: على رجله اليمنى إلخ) فيه أن هذا مخالف للسنة. ا هـ. ح أي لصحة الحديث في النهي عنه. وأجاب الشرنبلالي بحمله على التراوح؛ فإنه أفضل من نصب القدمين، وتفسير التراوح: أن يعتمد المصلي على قدم مرة وعلى الأخرى مرة أخرى: أي مع وضع القدمين على الأرض بدون رفع إحداهما لكن يبعده قوله ووضع اليسرى على ظهرها إلخ. أفاده ط. وقد يقال: للإمام رضي الله تعالى عنه مقصد حسن في ذلك نفي الكراهة عنه كما قالوا يكره أن يصلي الرجل حاسرا عن رأسه، لكن إذا قصد التذلل فلا كراهة. ثم رأيت بعض العلماء أجاب بذلك فقال: إنما فعل ذلك مجاهدة لنفسه، وليس يبعد أن يكون غرض مجاهدة النفس بذلك ممن لم يختل منه خشوعه مانعا للكراهة. ا هـ. (قوله: حق عبادتك) من إضافة الصفة للموصوف: أي عبادتك الحقة التي تليق بجلالك بل هي بقدر ما في وسعه ط. (قوله: لكن عرفك) استدراك على ما يتوهم من أن عدم عبادته حق العبادة نشأ من عدم المعرفة، والمراد أنه عرفه بصفاته الدالة على كبريائه ومجده، واستحقاقه دوام مشاهدته، ومراقبته، وليس المراد معرفة كنه الذات والصفات فإنه من المستحيلات ط. (قوله: فهب) من الهبة: وهي العطية، يقول وهبت له: أي أعط نقصان الخدمة لكمال المعرفة أي شفع هذا بهذا كما في هب مسيئنا لمحسننا. (قوله: ولمن اتبعك) أي في الخدمة والمعرفة أو فيما أدى إليه اجتهادك من الأوامر والنواهي، ولم يزغ عنها لا بمجرد التقليد. (قوله: إلى يوم القيامة) متعلق بكان التامة أو باتبعك (قوله: وقيل لأبي حنيفة) ذكر في التعليم هذه العبارة عن أبي يوسف ثم قال: قيل لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه: بم أدركت العلم؟ قال: إنما أدركت العلم بالجهد والشكر، وكلما فهمت ووقفت على فقه وحكمة قلت الحمد لله فازداد علمي ط. (قوله: وما استنكفت) أي أنفت وامتنعت. (قوله: مسافر بن كدام) الذي رأيته في مواضع كتعدده: مسعر بن كدام بكسر أولهما وكدام بالدال. (قوله: رجوت أن لا يخاف) لأنه قلد إماما عالما صحيح الاجتهاد سالم الاعتقاد، ومن قلد عالما لقى الله سالما، وتمام كلام مسعر: وأن لا يكون فرط في الاحتياط لنفسه. (قوله: وقال) أي مسعر، لكن ذكر في المقدمة الغزنوية هذين البيتين وأنه أنشدهما أبو يوسف أفاده ط. (قوله: حسبي) أي كافي مبتدأ خبره قوله ما أعددته: أي هيأته، ويوم القيامة متعلق بحسبي أو بأعددته أو برضا وفي للسببية ودين بدل من ما. (قوله: وأنا أفتخر إلخ) الفخر والافتخار التمدح بالخصال: أي يذكر من جملة نعم الله تعالى عليه أن جعل من أتباعه هذا الرجل الذي شيد بنيان الدين بعد انقراض الصحابة وأكثر التابعين، وتبعه ما لا يحصى من الأمة، وسبق في الاجتهاد وتدوين الفقه من بعده من الأئمة، وأعانهم بأصحابه وفوائده الجمة على استنباط الأحكام المهمة. (قوله: الضياء المعنوي) هو شرح مقدمة الغزنوي للقاضي أبي البقاء بن الضياء المكي. (قوله: وقول ابن الجوزي) أي ناقلا عن الخطيب البغدادي. (قوله: لأنه روي بطرق مختلفة) بسطها العلامة طاش كبرى، فيشعر بأن له أصلا، فلا أقل من أن يكون ضعيفا فيقبل؛ إذ لم يترتب عليه إثبات حكم شرعي، ولا شك في تحقق معناه في الإمام فإنه سراج يستضاء بنور علمه ويهتدى بثاقب فهمه، لكن قال بعض العلماء: إنه قد أقر ابن الجوزي على عده هذه الأخبار في الموضوعات الحافظ الذهبي والحافظ السيوطي والحافظ ابن حجر العسقلاني والحافظ الذين انتهت إليه رئاسة مذهب أبي حنيفة في زمنه الشيخ قاسم الحنفي، ومن ثم لم يورد شيئا منها أئمة الحديث الذين صنفوا في مناقب هذا الإمام كالطحاوي وصاحب طبقات الحنفية محيي الدين القرشي وآخرين متقنين ثقات أثبات نقاد لهم اطلاع كثير. ا هـ. وقال العلامة ابن حجر المكي في الخيرات الحسان في ترجمة أبي حنيفة النعمان: ومن اطلع على ما يأتي في هذا الكتاب من أحوال أبي حنيفة وكراماته وأخلاقه وسيرته علم أنه غني عن أن يستشهد على فضله بخبر موضوع. وقال: ومما يصلح للاستدلال به على عظيم شأن أبي حنيفة ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «ترفع زينة الدنيا سنة خمسين ومائة» ومن ثم قال شمس الأئمة الكردي: إن هذا الحديث محمل على أبي حنيفة؛ لأنه مات تلك السنة. ا هـ. وقال أيضا: وقد وردت أحاديث صحيحة تشير إلى فضله: منها قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة والطبراني عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجال من أبناء فارس» ورواه أبو نعيم عن أبي هريرة والشيرازي والطبراني عن قيس بن سعد بن عبادة بلفظ: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو كان العلم معلقا عند الثريا لتناوله رجال من أبناء فارس» ولفظ الطبراني عن قيس: «لا تناله العرب لناله رجال من أبناء فارس» وفي رواية مسلم عن أبي هريرة: «لو كان الإيمان عند الثريا لذهب به رجل من أبناء فارس حتى يتناوله» وفي رواية للشيخين عن أبي هريرة: «والذي نفسي بيده لو كان الدين معلقا بالثريا لتناوله رجل من فارس» وليس المراد بفارس البلاد المعروفة، بل جنس من العجم وهم الفرس؛ لخبر الديلمي: «خير العجم فارس» وقد كان جد أبي حنيفة من فارس على ما عليه الأكثرون. قال الحافظ السيوطي: هذا الحديث الذي رواه الشيخان أصل صحيح يعتمد عليه في الإشارة لأبي حنيفة، وهو متفق على صحته وبه يستغنى عما ذكره أصحاب المناقب ممن ليس له دراية في علم الحديث، فإن في سنده كذابين ووضاعين ا هـ. ملخصا. وفي حاشية الشبراملسي على المواهب عن العلامة الشامي تلميذ الحافظ السيوطي قال: ما جزم به شيخنا من أن أبا حنيفة هو المراد من هذا الحديث ظاهر لا شك فيه؛ لأنه لم يبلغ من أبناء فارس في العلم مبلغه أحد. ا هـ. (قوله: التستري) إمام عظيم رضي الله عنه، كان يقول: إني لأعهد الميثاق الذي أخذه الله تعالى علي في عالم الذر؛ وإني لأرعى أولادي من هذا الوقت إلى أن أخرجهم الله من علم الشهود والظهور. (قوله: لما تهودوا إلخ) أي لما داموا على دينهم الباطل واعتقادهم العاطل؛ ولم يقبلوا ما أدخله عليهم علماؤهم من الدسائس فأعموهم عما جاء به نبينا من النفائس، فإنهم لم يقبلوا ذلك إلا لعقلهم الفاسد، ورأيهم الكاسد، فلو كان فيهم مثله غزير العلم، ثاقب الفهم، قائما بالصدق، عارفا بالحق، لرد جميع ذلك، وأنقذهم من المهالك، قبل غلوهم وتمكن الشبه في عقولهم، فإن كونه واحدا منهم يكون لكلامه أقبل، فإن الجنس إلى الجنس أميل، فلا يلزم تفضيله على نبينا المكرم صلى الله عليه وسلم، فافهم. (قوله: ومناقبه أكثر من أن تحصى) هذا من مشكل التراكيب فإن ظاهره تفضيل الشيء في الأكثرية على الإحصاء ولا معنى له، ونظائره كثيرة قل من يتنبه لإشكالها، ووجه بأوجه متعددة بينتها في رسالتي المسماة بالفوائد العجيبة في إعراب الكلمات الغريبة، أحسنها ما ذكره الرضي أنه ليس المراد التفضيل بل المراد البعد عن الكثرة، فمن متعلقة بأفعل التفضيل بمعنى تجاوز وباين بلا تفضيل. (قوله: سبط) قيل الأسباط الأولاد خاصة، وقيل أولاد الأولاد، وقيل أولاد البنات نهاية الحديث المشهور الثالث. (قوله: وسماه الانتصار) إنما سماه بذلك؛ لأن الإمام رضي الله عنه لما شاعت فضائله وعمت الخافقين فواضله، جرت عليه العادة القديمة من إطلاق ألسنة الحاسدين فيه حتى طعنوا في اجتهاده وعقيدته بما هو مبرأ منه قطعا لقصد أن يطفئوا نور الله ويأبى الله إلا أن يتم نوره، كما تكلم بعضهم في مالك، وبعضهم في الشافعي، وبعضهم في أحمد، بل قد تكلمت فرقة في أبي بكر وعمر، وفرقة في عثمان وعلي، وفرقة كفرت كل الصحابة: ومن ذا الذي ينجو من الناس سالما وللناس قال بالظنون وقيل وممن انتصر للإمام رحمه الله تعالى العلامة السيوطي في كتاب سماه تبييض الصحيفة والعلامة ابن حجر في كتاب سماه الخيرات الحسان والعلامة يوسف بن عبد الهادي الحنبلي في مجلد كبير سماه تنوير الصحيفة، وذكر فيه عن ابن عبد البر: لا تتكلم في أبي حنيفة بسوء ولا تصدقن أحدا يسيء القول فيه، فإني والله ما رأيت أفضل ولا أورع ولا أفقه منه ثم قال: ولا يغتر أحد بكلام الخطيب، فإن عنده العصبية الزائدة على جماعة من العلماء كأبي حنيفة والإمام أحمد وبعض أصحابه، وتحامل عليهم بكل وجه، وصنف فيه بعضهم السهم المصيب في كيد الخطيب. وأما ابن الجوزي فإنه تابع الخطيب وقد عجب سبطه منه حيث قال في مرآة الزمان: وليس العجب من الخطيب فإنه طعن في جماعة من العلماء، وإنما العجب من الجد كيف سلك أسلوبه وجاء بما هو أعظم. قال: ومن المتعصبين على أبي حنيفة الدارقطني وأبو نعيم، فإنه لم يذكره في الحلية وذكر من دونه في العلم والزهد ا هـ. وممن انتصر له العارف الشعراني في الميزان بما يتعين مطالعته قال في الخيرات الحسان: وبفرض صحة ما ذكره الخطيب من القدح عن قائله فلا يعتد به، فإنه إن كان من غير أقران الإمام فهو مقلد لما قاله أو كتبه أعداؤه أو من أقرانه فكذلك؛ لأن قول الأقران بعضهم في بعض غير مقبول كما صرح به الذهبي والعسقلاني قالا ولا سيما إذا لاح أنه لعداوة أو لمذهب؛ إذ الحسد لا ينجو منه إلا من عصمه الله تعالى. قال الذهبي: وما علمت أن عصرا سلم أهله من ذلك إلا عصر النبيين عليهم الصلاة والسلام والصديقين. وقال التاج السبكي. ينبغي لك أيها المسترشد أن تسلك سبيل الأدب مع الأئمة الماضين ولا تنظر إلى كلام بعضهم في بعض إلا إذا أتى ببرهان واضح. ثم إن قدرت على التأويل وتحسين الظن فدونك، وإلا فاضرب صفحا، فإياك ثم إياك أن تصغي إلى ما اتفق بين أبي حنيفة وسفيان الثوري، أو بين مالك وابن أبي ذئب، أو بين أحمد بن صالح والنسائي، أو بين أحمد والحارث المحاسبي، وذكر كلام كثيرين من نظراء مالك فيه، وكلام ابن معين في الشافعي. قال: وما مثل من تكلم فيهما وفي نظائرهما إلا كما قال الحسن بن هانئ: يا ناطح الجبل العالي ليكلمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل ا هـ. ملخصا. وقد أطال في ذلك وفي ذكر من أثنى على الإمام من أئمة السلف وممن بعدهم، وما نقلوه من سعة علمه وفهمه وزهده وورعه وعبادته واحتياطه وخوفه، وغير ذلك مما يستدعي مؤلفات، وما ينسب إلى الإمام الغزالي يرده ما ذكره في إحيائه المتواتر عنه حيث ترجم الأئمة الأربعة وقال: وأما أبو حنيفة فلقد كان أيضا عابدا زاهدا عارفا بالله تعالى، خائفا منه، مريدا وجه الله تعالى بعلمه إلخ. أقول: ولا عجب من تكلم السلف في بعضهم كما وقع للصحابة، لأنهم كانوا مجتهدين فينكر بعضهم على من خالف الآخر سيما إذا قام عنده ما يدل له على خطأ غيره، فليس قصدهم إلا الانتصار للدين لا لأنفسهم، وإنما العجب ممن يدعي العلم في زماننا ومأكله ومشربه وملبسه وعقوده وأنكحته وكثير من تعبداته يقلد فيها الإمام الأعظم ثم يطعن فيه وفي أصحابه، وليس مثله إلا كمثل ذبابة وقعت تحت ذنب جواد في حالة كره وفره وليت شعري لأي شيء يصدق ما قيل في أبي حنيفة ولا يصدق ما قيل في إمام مذهبه، ولم لا يقلد إمام مذهبه في أدبه مع هذا الإمام الجليل؟ فقد نقل العلماء ثناء الأئمة الثلاثة على أبي حنيفة وتأدبهم معه ولا سيما الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه، والكامل لا يصدر منه إلا الكمال، والناقص بضده. ويكفي المعترض حرمانه بركة من يعترض عليه، أعاذنا الله من ذلك، وأدامنا على حب سائر الأئمة المجتهدين وجميع عباده الصالحين، وحشرنا في زمرتهم يوم الدين. ومما روي من تأدبه معه أنه قال: إني لأتبرك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره، فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وسألت الله تعالى عند قبره فتقضى سريعا. وذكر بعض من كتب على المناهج أن الشافعي صلى الصبح عند قبره فلم يقنت، فقيل له لم؟ قال: تأدبا مع صاحب هذا القبر. وزاد غيره أنه لم يجهر بالبسملة. وأجابوا عن ذلك بأنه قد يعرض للسنة ما يرجح تركها عند الاحتياج إليه كرغم أنف حاسد، وتعليم جاهل ولا شك أن أبا حنيفة كان له حساد كثيرون، والبيان بالفعل أظهر منه بالقول، فما فعله الشافعي رضي الله تعالى عنه أفضل من فعل القنوت والجهر. أقول: ولا يخفى عليك أن ذلك الطاعن الأحمق طاعن في إمام مذهبه، ولذا قال في الميزان: سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى مرارا يقول: يتعين على أتباع الأئمة أن يعظموا كل من مدحه إمامهم؛ لأن إمام المذهب إذا مدح عالما وجب على جميع أتباعه أن يمدحوه تقليدا لإمامهم، وأن ينزهوه عن القول في دين الله بالرأي. وقال أيضا لو أنصف المقلدون للإمام مالك والشافعي لم يضعف أحد منهم قولا من أقوال أبي حنيفة بعد أن سمعوا مدح أئمتهم له، ولو لم يكن من التنويه برفعة مقامه إلا كون الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ترك القنوت في الصبح لما صلى عند قبره لكان فيه كفاية في لزوم أدب مقلديه معه. ا هـ. (قوله: وصنف غيره) كالإمام الطحاوي والحافظ الذهبي والكردري وغيرهم ممن قدمناهم (قوله: من أعظم معجزات إلخ) لأنه صلى الله عليه وسلم قد أخبر به قبل وجوده بالأحاديث الصحيحة التي قدمناها، فإنها محمولة عليه بلا شك كما قدمناه عن الشامي صاحب السيرة وشيخه السيوطي، كما حمل حديث: «لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ الأرض علما» على الإمام الشافعي، لكن حمله بعضهم على ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وهو حقيق بذلك، فإنه حبر الأمة وترجمان القرآن، وكما حمل حديث: «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أعلم من عالم المدينة» على الإمام مالك، لكنه محتمل لغيره من علماء المدينة المنفردين في زمنهم، بخلاف تلك الأحاديث فإنها ليس لها محمل إلا أبو حنيفة وأصحابه كما أفاده ط. وأما سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه فهو وإن كان أفضل من أبي حنيفة من حيث الصحبة، فلم يكن في العلم والاجتهاد ونشر الدين وتدوين أحكامه كأبي حنيفة، وقد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، وسمي ذلك معجزة بناء على أن المراد بالتحدي في تعريف المعجزة هو دعوى الرسالة وهو قول المحققين كما في المواهب وقيل المراد به طلب المعارضة والمقابلة، وعليه فذلك كرامة لا معجزة، فافهم. (قوله: بعد القرآن) متعلق بأعظم، أي لأنه أعظم المعجزات على الإطلاق؛ لأنه معجزة مستمرة دائمة الإعجاز وقيد بذلك وإن عبر بمن التبعيضية لئلا يتوهم مساواة هذه المعجزة لتلك، فإن المشاركة في الأعظمية تصدق بالمساواة، فتدبر. (قوله: اشتهار مذهبه) أي في عامة بلاد الإسلام، بل في كثير من الأقاليم والبلاد لا يعرف إلا مذهبه، كبلاد الروم والهند والسند وما وراء النهر وسمرقند. وقد نقل أن فيها تربة المحمدين، دفن فيها نحو من أربعمائة نفس كل منهم يقال له محمد، صنف وأفتى وأخذ عنه الجم الغفير. ولما مات صاحب الهداية منعوا دفنه بها فدفن بقربها. وروي أنه نقل مذهبه نحو من أربعة آلاف نفر، ولا بد أن يكون لكل أصحاب وهلم جرا. وقال ابن حجر: قال بعض الأئمة لم يظهر لأحد من أئمة الإسلام المشهورين مثل ما ظهر لأبي حنيفة من الأصحاب والتلاميذ، ولم ينتفع العلماء وجميع الناس بمثل ما انتفعوا به وبأصحابه، في تفسير الأحاديث المشتبهة، والمسائل المستنبطة، والنوازل والقضايا والأحكام، جزاهم الله تعالى الخير التام. وقد ذكر منهم بعض المتأخرين المحدثين في ترجمته ثمانمائة مع ضبط أسمائهم ونسبهم بما يطول ذكره. ا هـ. (قوله: قولا) أي سواء ثبت عليه أو رجع عنه ط. (قوله: إلا أخذ به إمام) أي من أصحابه تبعا له، فإن أقوالهم مروية عنه كما سيأتي، أو من غيرهم من المجتهدين موافقة في اجتهاده؛ لأن المجتهد لا يقلد مجتهدا أفاده ط. (قوله: من زمنه إلى هذه الأيام) فالدولة العباسية وإن كان مذهبهم مذهب جدهم، فأكثر قضاتها ومشايخ إسلامها حنفية، يظهر ذلك لمن تصفح كتب التواريخ وكان مدة ملكهم خمسمائة سنة تقريبا. وأما الملوك السلجوقيون وبعدهم الخوارزميون فكلهم حنفيون وقضاة ممالكهم غالبها حنفية. وأما ملوك زماننا سلاطين آل عثمان، أيد الله تعالى دولتهم ما كر الجديدان فمن تاريخ تسعمائة إلى يومنا هذا لا يولون القضاء وسائر مناصبهم إلا للحنفية قاله بعض الفضلاء، وليس في كلام الشارح ادعاء التخصيص في جميع الأماكن والأزمان، حتى يرد أن القضاء بمصر كان مختصا بمذهب الإمام الشافعي إلى زمن الظاهر بيبرس البندقداري فافهم. (قوله: إلى أن يحكم بمذهبه عيسى عليه السلام) تبع فيه القهستاني وكأنه أخذه مما ذكره أهل الكشف أن مذهبه آخر المذاهب انقطاعا فقد قال الإمام الشعراني في الميزان ما نصه: قد تقدم أن الله تعالى لما من علي بالاطلاع على عين الشريعة رأيت المذاهب كلها متصلة بها، ورأيت مذاهب الأئمة الأربعة تجري جداولها كلها، ورأيت جميع المذاهب التي اندرست قد استحالت حجارة، ورأيت أطول الأئمة جدولا الإمام أبا حنيفة ويليه الإمام مالك، ويليه الإمام الشافعي، ويليه الإمام أحمد، وأقصرهم جدولا الإمام داود، وقد انقرض في القرن الخامس، فأولت ذلك بطول زمن العمل بمذاهبهم وقصره فكما كان مذهب الإمام أبي حنيفة أول المذاهب المدونة فكذلك يكون آخرها انقراضا، وبذلك قال أهل الكشف ا هـ. لكن لا دليل في ذلك، على أن نبي الله عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام يحكم بمذهب أبي حنيفة وإن كان العلماء موجودين في زمنه فلا بد له من دليل، ولهذا قال الحافظ السيوطي في رسالة سماها الإعلام ما حاصله: إن ما يقال إنه يحكم بمذهب من المذاهب الأربعة باطل لا أصل له، وكيف يظن بنبي أنه يقلد مجتهدا مع أن المجتهد من آحاد هذه الأئمة لا يجوز له التقليد، وإنما يحكم بالاجتهاد، أو بما كان يعلمه قبل من شريعتنا بالوحي، أو بما تعلمه منها وهو في السماء، أو أنه ينظر في القرآن فيفهم منه كما كان يفهم نبينا عليه الصلاة والسلام ا هـ. واقتصر السبكي على الأخير. وذكر منلا علي القاري أن الحافظ ابن حجر العسقلاني سئل هل ينزل عيسى عليه السلام حافظا للقرآن والسنة أو يتلقاهما عن علماء ذلك الزمان؟ فأجاب: لم ينقل في ذلك شيء صريح، والذي يليق بمقامه عليه الصلاة والسلام أنه يتلقى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحكم في أمته كما تلقاه منه؛ لأنه في الحقيقة خليفة عنه. ا هـ. وما يقال إن الإمام المهدي يقلد أبا حنيفة، رده منلا على القاري في رسالته المشرب الوردي في مذهب المهدي وقرر فيها أنه مجتهد مطلق، ورد فيها ما وضعه بعض الكذابين من قصة طويلة. حاصلها: أن الخضر عليه السلام تعلم من أبي حنيفة الأحكام الشرعية، ثم علمها للإمام أبي القاسم القشيري، وأن القشيري صنف فيها كتبا وضعها في صندوق، وأمر بعض مريديه بإلقائه في جيحون، وأن عيسى عليه السلام بعد نزوله يخرجه من جيحون ويحكم بما فيه، وهذا كلام باطل لا أصل له، ولا تجوز حكايته إلا لرده كما أوضحه ط وأطال في رده وإبطاله فراجعه. (قوله: وهذا) أي ما تقدم من الأحاديث، ومن كثرة المناقب، ومن كون الحكم لأصحابه وأتباعه ط. (قوله: سائر) بمعنى باقي أو جميع على خلاف بسطه في درة الغواص. (قوله: كيف لا) أي كيف لا يختص بأمر عظيم. (قوله: وهو كالصديق) وجه الشبه أن كلا منهما ابتدأ أمرا لم يسبق إليه فأبو بكر رضي الله عنه ابتدأ جمع القرآن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بمشورة عمر وأبو حنيفة ابتدأ تدوين الفقه كما قدمناه، أو أن أبا بكر أول من آمن من الرجال وفتح باب التصديق كذا في حواشي الأشباه. قال شيخنا البعلي في شرحه عليها: والأول أولى؛ لأن وجه الشبه به أتم، وقول من قال الثاني، هو الظاهر؛ لأن القرآن بعدما جمع لا يتصور جمعه غير ظاهر، فإنه قد جمع ثانيا والجامع له عثمان رضي الله تعالى عنه، فإن الصديق رضي الله تعالى عنه لم يجمعه في المصاحف وجمعه عثمان كما هو معلوم ا هـ. تأمل. (قوله: له) أي للإمام أجره: أي أجر عمل نفسه، وهو تدوين الفقه واستخراج فروعه ط. (قوله: وأجر) أي ومثل أجر من دون الفقه: أي جمعه، وأصله من التدوين: أي جعله في الديوان، وهو بكسر وفتح اسم لما يكتب فيه أسماء الجيش للعطاء، وأول من أحدثه عمر رضي الله عنه، ثم أريد به مطلق الكتب مجازا أو منقولا اصطلاحيا، وقوله وألفه عطف على دون من عطف الخاص على العام. ا هـ. بعلي: أي لأن التأليف جمع على وجه الألفة.
|